عُرفت الفلسفة في بواكير ظهورها بمنهج ومضمون، فالمنهج هو النظري، والمضمون هو الموضوعات المنظور إليها، وفق مسلك ذهنيّ معرفيّ، داخل السياق الثقافي اللغويّ الإغريقيّ، وقد قارنت في منطلقها المسلك العمليّ، وإن كان دونها في الدرجة؛ إذ المسالك العملية الفلسفية وسيلة لتحصيل المعاني المستخلصة من أُطرها النظريّة، وقد تقلبت الفلسفة في أطوار عبر القرون والأمكنة، والتعظيم والتهميش، حتى ظهرت دعوات معاصرة، من منطلقات الأخلاق، أو التدبير للعيش، أو الأشكال الاجتماعيّة، تُعيد النظر في قيمة المسلك العمليّ من الفلسفة في صلته ب «الأخلاق»، وهو «العقل العمليّ»، إن تحصيلا للقيم الخُلقية، أو كيفية العيش لتحصيل السعادة، أو الحياة الأنسب بحسب كل توجّه. ومع تعدد التخصصات وتداخل بعضها، وتعمق كثير منها في دراسة الإنسان بجلّ أبعاده، وباطنه وخارجه؛ فإن إحياء «العقل العملي» سيتخذُ مسالك أقرب للعمق والتدقيق؛ بحسب المؤطر الفلسفي الذي تحتكم إليه التوجهات الفكريّة المعاصرة، سواء سمّي ب»جودة الحياة»، «الحياة الجيدة»، «السعادة»، «تقنيات النفس»، «مذهب التقليل/ أو الزهد»... وغيرها من توجهات؛ تمتحُ من مصادر متقدمة، من أهمها وأبرزها: المصدر الهيليني، إن وفق أصوله الإغريقية أو تحولاته الهيلينية، وهذا التزوّد قد يكون خادعاً في ظاهره، لأنه تزوّد يعيد تشكيل المصادر وفق مؤطّرات اليوم. ومن هذه التوجهات نحو استعادة ضبط النفس، وتحليتها بالأخلاق، ما درسه «ميشيل فوكو»، من موضوع «الذات» في تقلباتها عبر الفكر الغربي، لا بحسب النظر إلى الذات بين الثبات والصيرورة، من حيث هي كينونة، بل من حيث هي تعريفات بحسب أطوار الفكر الغربيّ، حيث تمنح التعريفات والمعارف سلطة ما، وتتقاطع مع سلطة ما. مميزاً لهذه التعريفات بين «الذات» في سياقها الغربي، و»الذات» في سياقها الشرقيّ، وفق مجال «الجنس»، بين «الجنس» و»الجنسانية»، حيث تتصل الجنسانية بدراسة الجنس علميّاً دراسة غربية، تتخذه وسيلة للتعريف والتعرّف على الذات. فمنطلق دراسته للذات كان من علاقة الذات بالآخر في الصلات الجنسيّة، وفق الحضارة الغربية، بمنهجه في بحث الأفكار، لكشف التحولات الإبستيمية، في علاقة بين «المعرفة» و»السلطة» في تأطير هذا السؤال: لماذا ارتبط الجنس بالأخلاق؟ رادّاً عمق معرفة الذات إلى الصلات بين الذات والآخر في مجال الجنس (ومن هنا لا بدّ من التنبه لصنيع وائل حلاق فيما بعد، حينما استقدم رؤية فوكو ل «تقنيات الذات»، ليوازي بينها وبين ما ذكر في الحضارة الإسلاميّة من أدبيات التزكية، كما عند الغزالي -رحمه الله-، عاداً فوكو غزاليا، وأركان الإسلام من ضمن تقنيات النفس! وهذه من المؤاخذات على وائل حلاق لعدم دقته، ومؤاخذات على نصّه الذي وجّه به الفكر الإسلامي بطريقة غريبة عن هذا الفكر). وقد ثلّث فوكو علاقة الذات بالآخر في الفكر الغربي وفق ثلاث حقب، تحت سؤال علاقة الجنس بالأخلاق؟ بحثاً لصلة المعرفة «الجنسانية» ب «السلطة» الضابطة لهذه العلاقات، فقد ارتسمت علاقة الذات بغيرها بثلاث حقب: اليونانية فالمسيحية فالحديثة. فعندما يطرح فوكو «تقنيات الذات/النفس»، أو «العيش»، إن في كتبه المعنونة بما يقارب هذا المركب المطروح، أو تلك التي تدرس الذات من موضوع «الجنس»؛ فهو يضمر أصالة انفصال الجنس عن الأخلاق، وأن الأخلاق ليست في أصلها قانون التعامل الإنساني لكل الفعل. إضافة لارتكاز فلسفة فوكو على الكشف والفحص، دون نظر في تثبيت المرجعيّة، بل هي دراسة لطبقات معرفيّة ومرجعياتها. وإسقاط مثل هذه الأطاريح الفلسفية إلى مجال آخر، أو حتى في المجال الغربي نفسه، دون استحضار أصالة رؤية فوكو في فصله بين الشرق والغرب، ثم استخراج تحليلاته من مجالات محددة؛ تجهيلٌ قد يصيّر الإنسان في حالة تخليط، وتعمية وتضليل للقراء، إن بين «العقل العمليّ» وفق الفضائل اليونانية، أو ما تبعها من القرون الوسطى، أو خلطه مع «التزكية» كما فعل وائل حلّاق، حينما رد مسالك التزكية، بل وحتى الأركان الخمسة في الإسلام إلى «تقنيات النفس»؛ لإصلاح الحداثة!.