هل تستحيل إقامة دولة إسلامية حداثية بمقاييس العصر؟ يجيب عن هذا السؤال المفكر وائل حلاق في كتاب «الدولة المستحيلة... الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» الصادر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة عمرو عثمان. يناقش الكاتب مفهوم الدولة الإسلامية، ويرى أنه أمر يستحيل تحققه، وينطوي على تناقض داخلي، وفق التعريفات السائدة للدولة الحديثة. ويبرر ذلك بأن أي قراءة مقارنة بين تاريخ تشكل الدولة الحداثية والحكم الإسلامي يبرز هذه الاستحالة التي تصدرت العنوان. أصبح من المسلّمات في الأوساط الفلسفية اليوم، أن نظرية هوبز بخصوص وجوب تأسيس الأخلاق على قوانين موضوعية يكتشفها العقل لا على التراث أو أي نصوص دينية، قد مهَّدت للتصور الحديث عن العلاقة بين القانون والأخلاق، الذي يظل بموجبه القانون سارياً لسلطة حاكمة بغض النظر عن عدم أخلاقيته. وتغلغلت هذه الفكرة في نسيج الفلسفة الأخلاقية الحديثة بأكثر الطرائق تعقيداً. وتبين للمؤلف -من خلال قراءته التراث الإسلامي قبل الحديث وخطاباته- أن القانوني والأخلاقي لم يُنظر إليهما باعتبارهما مقولتين منقسمتين. يرى حلاق أن المسلمين اليوم يعيشون حالة من غياب الانسجام بين تطلعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة، والواقع الأخلاقي للعالم الحديث من جهة ثانية، ولذلك فإن استحالة الدولة الإسلامية اليوم تنبع من كون هذا التناقض يميل لصالح قيم العصر الحديث، الناتجة عن التنوير الأوروبي. ومن ثم يدعو المؤلف إلى التعاون بين المسلمين والغرب من أجل التفاعل مع هذه القيم الحديثة، وجعل الأخلاق في النطاق المركزي للدولة، بدل الاستمرار في الحديث عن مفهوم أخلاقي قديم للدولة الإسلامية التي وجدت في الماضي. ويقسم حلاق كتابه إلى سبعة فصول، يتناول الأول «الحكم الإسلامي النموذجي»، ويقر بأن هذا الحكم النموذجي لم يتحقق طوال التاريخ الإسلامي إلا في فترات قليلة في عمر الدولة الوليدة بعد وفاة النبي (ص)، وفي عهد الخلفاء الراشدين. ويصف الكاتب في الفصل الثاني «الدولة الحديثة النموذجية»، ويحدد «خصائص الشكل» التي تمثل الصفات الجوهرية لتلك الدولة، ويفكّك تلك الخصائص، معترفاً في الوقت ذاته بالتغيرات المتزامنة والتنوّعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة. أما الفصل الثالث «الفصل بين السلطات: حكم القانون أم حكم الدولة»، فيناقش مفاهيم الإرادة السيادية وحكم القانون في ما يخص مبدأ الفصل بين السلطات، مستعرضاً الأطر والبنى الدستورية لكل من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي. بينما يعالج الفصل الرابع «القانوني والسياسي والأخلاقي»، معنى القانون وعلاقته بالأخلاق. يذكر المؤلف رؤية الفيلسوف الأخلاقي الرائد ماكنتاير، وقد لاحظ أنه لم تكن في اللاتينية ولا في اللغة اليونانية القديمة «أي كلمة تمكن ترجمتها بصورة صحيحة إلى كلمة أخلاقي الخاصة بنا»، والأمر نفسه يصدق على اللغات الإسلامية الرئيسية قبل العصر الحديث، إذ لم يكن ثمة مرادف دقيق لكلمة أخلاق، ولم تكن تحمل أياً من المعاني الحافلة التي نقرنها بها اليوم في الفلسفة الأخلاقية والقانونية. من جانب آخر، صاحبت نشأة الدولة القانونية (بهيئتها الوضعية) «نشأة السياسي»، بحيث غدت السلطة السياسية الدنيوية هي المرجع. وعندها ظهرت السياسة إلى الوجود وراحت تكابد من أجل ذاتها. وأصبحت السلطة والقواعد الوضعية غير قابلتين للانفصال، مثلما أصبح السياسي والقانوني أشبه بالهوية أو هوية كاملة داخل الدولة. ذلك أنه في العالم -كما هو قائم- تعتبر السلطة وليس الأخلاق هي الحكم النهائي في ما يتعلق بكل ما هو سياسي. يتتبع الكاتب التحول الذي جرى على مستوى «تقنيات الذات» في فترة الحداثة وما قبلها، بداية بتصورات الغزالي حول تدريب النفس الذي من خلاله نغدو بغنى عن السؤال عن السبب الذي من أجله يجب أن يكون المرء أخلاقياً، بل الحاجة تغدو للسؤال فحسب عن الطريقة التي يجعل بها نفسه أخلاقياً. وهنا تكون رؤية الإنسان لموقعه في الكون، تلك الرؤية المتسمة بأنها «علاقة معرفية بين الزهد والحقيقة»، وهي حقيقة لا نهاية لها حتى الموت. وإذا كانت فكرة الاهتمام بالنفس قد باتت الآن «غامضة وباهتة»، كما يقول فوكو، فإن في ذلك شهادة على تحول معرفي تحولت فيه تقنيات النفس إلى تقنيات للجسد. وفي الفصل الخامس، «الذات السياسية والتقنيات الأخلاقية لدى الذات»، يرى المؤلف أن الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، وأن الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تبايناً كبيراً، الأمر الذي يولد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم. وفي الفصل السادس، «عولمة تضرب حصارها واقتصاد أخلاقي»، يرى المؤلف أن الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة، تكفي لجعل أي صورة من الحكم الإسلامي إما أمراً مستحيل التحقق، وإما غير قابل للاستمرار على المدى البعيد إذا أمكن قيامه أصلاً. ويختم الكاتب بالفصل السابع «النطاق المركزي للأخلاقي»، بالكلام عن المآزق الأخلاقية الحديثة. ويرى المؤلف أن استحالة فكرة الحكم الإسلامي ناتجة بصورة مباشرة من غياب بيئة أخلاقية مواتية تستطيع أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته، كما يرى أن هذه الاستحالة هي تجل آخر لمشاكل أخرى، مثل الانهيار المطرد للوحدات الاجتماعية العضوية ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية. ووفق المؤلف، فإن الدولة وفق هذا النموذج، تعكس رؤية كاملة للعالم هي رؤية النزعة الإنسانية القائمة على فكرة الاستقلالية والتميز، أي اكتفاء الإنسان بذاته، والفصل بين الواقع والقيم، وإسناد القيمة المعيارية للأشياء إلى التواضع الاجتماعي والحرية الفردية، أي ذاتية الإنسان الراشدة غير المقيدة بأي سقف مطلق أو مفارق. وينطلق من هذا التصور ليرفض استنتاج بنية قانونية من هذه المعايير المطلقة، معتبراً أن النسق الإسلامي يغلب عليه البعد الأخلاقي لا الالتزامات والإكراهات، سوى «آثار عرضية» للرسالة الدينية التي تحدد الأحكام وفق السياقات الاجتماعية زماناً ومكاناً مع الاحتفاظ بمسؤولية التأويل الحر والاجتهاد المفتوح. ويدعو حلاق إلى حوار واسع بين الثقافات لتجاوز نزعات الانكفاء الخصوصي والعرقية المركزية، من أجل هدف مشترك هو النقد الأخلاقي للحداثة، ولنموذجها السياسي الذي هو الدولة القومية الشاملة، يشارك فيه الجميع من منطلقاته الثقافية. وفي نهاية دراسته يرى أن الأشكال السياسية التي يمكن أن تظهر في ثقافات مابعد التنوير الحقة، هي تلك التي تحمي التعددية وتعبر عنها. بيد أنه لكي يكون هذا احتمالاً تاريخياً، لا بد من إخضاع الحداثة لنقد أخلاقي يعيد هيكلتها لبقائنا الروحي والمادي.