في كثير من الأحيان، لا تُرهقنا المواقف التي تحدث لنا، بل عدد الطبقات الثقيلة من الأهمية التي نُراكمها فوق انتباهنا حين نُفرط في تقدير المواقف. نمنح كلمات الآخرين وزنًا أكبر من اللازم، نُضخّم الأخطاء الصغيرة حتى نختنق؛ ونخنق من حولنا، ونؤسس لكراهية الآخر من أبسط خلاف بكل استغراق، وكأن كل حدث هو تهديد وجودي لنا. وليس هذا مجرد خلل عابر في التفكير، بل سلوك تطوّري مرتبط بآليات بقاء الإنسان، فالدماغ مبرمج على التركيز التلقائي على التهديدات والمواقف السلبية أكثر من الإيجابية، وهو ما يعرف بالتحيز السلبي، وهو نمط ساعد أجدادنا على البقاء في بيئات خطرة -لأن تجاهل خطر محتمل قد يكون قاتلًا-، ومع أن بيئاتنا اليوم قد تغيّرت جذريًا، فإننا ما زلنا متمسكين بنفس آليات البقاء القديمة. من هنا، لا بد من استصحاب منظور علم الأعصاب لفهم ما يحدث داخلنا، فالجهاز الحوفي في الدماغ يتفاعل سريعًا مع الانفعالات، ويُطلق إشارات استجابة قبل أن تتدخل مراكز التفكير الواعي، وتحديدًا، تعمل اللوزة الدماغية فيه على تضخيم الإشارة الانفعالية تلقائيًا كآلية حماية، مما قد يؤدي إلى استجابات مبالغ فيها تُعرف باستجابة الكرّ أو الفرّ (Fight or Flight). في المقابل، تحتاج القشرة الجبهية –المسؤولة عن التفكير العقلاني– إلى وقت أطول لتقييم الأحداث بموضوعية، وإن لم ننتبه لهذه الآليات الداخلية، ونتوقف عمدًا لنتأمل قبل أن نستجيب، فإننا سنقع في فخ التضخيم النفسي والانفعالي، والحقيقة أن أغلب مواقفنا ليست بحجم انفعالاتنا، وهنا تتجلى أهمية الوعي بمفهوم تخفيض الأهمية، لا بمعنى إنكار المواقف أو تجاهلها -أحداثًا أم أشخاصًا- بل في منح مراكز التفكير الواعي المساحة الكافية لتعمل، بحيث لا تبتلعنا ردود الفعل الفورية، ومن المهم أيضًا أن نستحضر منظور المدخل التفاعلي الرمزي في علم الاجتماع، والذي يرى أن الإنسان لا يعيش في عالم من الأحداث فقط، بل في عالم من المعاني والرموز التي يصنعها عبر تفاعلاته اليومية، فكلمة جارحة من زميل عمل، أو موقف ما؛ من شريك حياة، قد تتحول إلى رمز متضخم يبتلع انتباهنا إذا أوليناه أكثر مما يستحق من المعنى، والحقيقة أن كثيرًا من هذه المواقف ليست إلا إشارات عابرة واحتكاكات متوقعة يمكن تقبّلها دون أن نسمح لها باستلاب انتباهنا، متى اخترنا أن نرى الحدث كما هو، لا كما تضخّمه تفسيراتنا. وهذا يقودنا إلى حقيقة أن الوعي بالمعاني والرموز، مهما كان عميقًا، لا يكفي وحده؛ فقد نبّه فلاسفة فن العيش -من الرواقيين القدماء إلى المفكرين المعاصرين- إلى ضرورة التخفف من الطبقات النفسية الزائفة التي نصنعها بتأويلاتنا، ومن الانفعالات التي تُعطّل حضورنا، فمسار الوعي متدرج: ينطلق من ملاحظة الانفعال الغريزي الذي يشتعل في لحظة، ثم يمرّ عبر الفهم العصبي لآلية استجابتنا، ويتوسع إلى التفسير الاجتماعي الرمزي الذي يمنح الحدث شكله في أذهاننا، قبل أن ينتهي إلى قرار واعٍ يخفف الحمل النفسي ويعيدنا إلى الحضور، ولئلا نغرق في التنظير، فلننتقل إلى الرباعية العملية لاكتساب مهارة تخفيض الأهمية والعيش بخفة: أولًا: سطوة التهويل: أن ندرك أن ما يُثقل أرواحنا ليس دائمًا ما يحدث في الخارج، بل كثيرًا ما تُثقلنا تصوّرات داخلية مضخَّمة صنعناها بأنفسنا، في واحدةٍ من رسائله الأخلاقية إلى صديقه لوسيليوس، كتب الفيلسوف الرواقي سينيكا جملةً تلخّص مأزق الإنسان المعاصر، حين قال: نحن نعاني أكثر في خيالنا مما نعانيه في الواقع، فالأحداث كثيرًا ما تمرّ وتمضي، أما صورها في عقولنا فتظل تعيد تشكيل الألم وتكراره. وهنا تحديدًا تبرز الحاجة إلى اكتساب مهارة تخفيض الأهمية؛ لا باعتبارها جمودًا أو لا مبالاة، بل تمرينًا على التحرّر من سطوة التهويل الذي يصنعه الخيال حين لا يضبطه الانتباه. ثانياً: دع جسدك يُفرغ ما لا يجب أن يحتفظ به عقلك: حين يقع ما يزعجك، يتسلّل الانفعال إلى داخلك كوميضٍ سريع، لكنه لا يغادر بسهولة، بل يترسّب كتوتّرٍ صامت يتضخّم دون انتباه، العقل لا يبدأ بالتحليل كما نأمل، بل يدخل في دوامة التأويل والتهويل، فيُعيد تشغيل الموقف كمشهدٍ داخليّ لا ينتهي. وهنا، تبرز أهمية الحركة الجسدية، مارس الرياضة لا بوصفها حلًّا للمشكلة، بل كاستجابةٍ واعية لتفريغ التوتر بدل احتجازه في قلب التجربة الشعورية. امشِ، اركض، تمدّد، أو مارس أي نشاطٍ بدني يعيد توزيع الطاقة المختزنة، فالكثير مما نسمّيه تفكيرًا زائدًا هو توتّرٌ يبحث عن مخرج عبر الأسئلة والافتراضات، والقلق، والخوف، والحزن، وهنا ثمة تنبيه بسيط وعميق، فقبل أن تبدأ ممارسة الرياضة ابدأ بنيةٍ واضحة: (أنا أنوي تخفيض أهمية ما يزعجني). ثالثاً: أعد تشكيل الرموز: غالبًا، لا يكون الحدث ذاته هو ما يؤلمنا، بل المعنى الذي نخلعه عليه حين نُذيب فيه انتباهنا بالكامل، كما قال الرواقي إبكتيتوس: (ليست الأشياء هي ما يُزعجنا، بل أفكارنا عنها). لهذا، اسأل نفسك: ما المعنى الذي منحته لهذا الموقف؟ وهل يمكن أن أراه بمنظور مختلف؟ في الغالب، لا تحتاج إلى تغيير ما جرى، بل إلى تحرير نفسك من المعاني التي تُقيدك. القوة ليست في مقاومة الحدث، بل في إعادة تشكيل رموزه. تأمل مثلًا شابًا أو فتاة انفصل بعد الزواج، وفسّر التجربة كفشل شخصي. فكرة واحدة ولّدت طيفًا من المشاعر المنخفضة: قلق، شعور بالنقص، خوف من المستقبل، لكن حين يعيد تشكيل المعنى، يبدأ برؤية الحقيقة كما هي: لم يكن فاشلًا، بل ناجيًا من علاقة لم تكن تحمل ملامح نموّه، وعليه فالقاعدة ببساطة: حين تعيد تشكيل المعاني والرموز، تتغير المشاعر، فتتنفّس الروح، وتتسع الحياة، وتمتلئ بالخفة. رابعاً: درّب نفسك على التجاهل الذكي: ليس كل تعليق يستحق أن يقتطع انتباهك، خاصةً إن كان جارحًا أو غير منصف، فالاحتفاظ بانتباهك هو أول أشكال الحماية الذاتية. أحيانًا، لا يكون الاستفزاز انعكاسًا لك، بل لاضطرابٍ في الطرف الآخر، ومع ذلك، فالتجاهل لا يعني إنكار الألم، بل اختيارًا واعيًا: متى تردّ، ومتى تمضي. حين يسخر الشريك من شريكه، أو يستخفّ زميلٌ بجهد زميله، توقّف لحظة واسأل نفسك: هل ما قيل يُعبّر عني حقًا؟ هل يستحق أن أستهلك طاقتي عليه، أم أضع له حدًا وأمضي؟ في بعض المواقف، يكون الردّ احترامًا للذات، وفي أخرى، يكون الصمت حكمة. الكلمات لا تؤذي إلا إذا منحتها هذا الحق، لذا التجاهل ليس ضعفًا، بل وعيٌ بمن تختار أن تمنحه سلطة التأثير عليك، القوة ليست في المواجهة الدائمة، بل في التمييز: متى يكون السكوت قوة، ومتى يكون الكلام ضرورة. وأخيراً؛ في عالم لا يتوقّف عن دفعنا إلى الرد والانفعال والتضخيم، تصبح القدرة على تخفيض الأهمية تمرينًا يوميًا على العيش بخفة وعمق معًا؛ فالخفة لا تُنال إلا بتخفيض الأهمية. *أخصائي الاجتماعي