في تقريره الصادر عن العام 2024، قدّم صندوق النقد الدولي تقييمًا شاملًا لأداء الاقتصاد السعودي ضمن مشاورات المادة الرابعة، كاشفًا عن صورة متزنة لاقتصادٍ تمكن من الصمود أمام تقلبات الأسواق الخارجية وتراجع أسعار النفط، وواصل في الوقت ذاته تنفيذ إصلاحات هيكلية طموحة مكّنت المملكة من المضي قدمًا في مشروعها الاقتصادي طويل الأجل. أظهر التقرير أن الأنشطة غير النفطية استمرت في النمو بمعدلات جيدة، حيث سجل الناتج المحلي غير النفطي نمواً بنسبة 4.5 % في العام 2024، مدفوعًا بقطاعات البناء والتجزئة والضيافة، رغم التراجع الملحوظ في الناتج المحلي النفطي بنسبة 4.4 % نتيجة الالتزام باتفاقيات "أوبك+" التي خفضت الإنتاج إلى 9 ملايين برميل يوميًا، هذا الأداء المتوازن يؤكد قدرة الاقتصاد السعودي على تقليل اعتماده على النفط تدريجيًا دون أن يُعرض التوازن الكلي للخطر، التضخم ظل تحت السيطرة، ولم يتجاوز 2.2 % في مايو 2025، وهي نسبة تُعد منخفضة بالنظر إلى البيئة التضخمية العالمية، فيما سجّل معدل البطالة بين المواطنين أدنى مستوياته منذ بدء الرصد، مع انخفاض حاد في بطالة النساء والشباب، وهو ما يعكس أثر السياسات النشطة في سوق العمل وارتفاع معدلات مشاركة المرأة. التقرير أشار أيضًا إلى أن التحول الاقتصادي الجاري تحت مظلة رؤية السعودية 2030، لم يعد مجرد استراتيجية معلنة بل واقعا ملموسا، تدعمه استثمارات ضخمة تقودها الدولة وصندوق الاستثمارات العامة، الذي يضخ ما لا يقل عن 150 مليار ريال سنويًا في الاقتصاد المحلي، ما يدعم مستويات النمو ويعزز من خلق فرص العمل في القطاعات غير النفطية. في المقابل، أشار الصندوق إلى عدد من التحديات المرتبطة بالعجز المالي والتراجع في الحساب الجاري، إذ بلغ عجز المالية العامة نحو 4 % من الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع الدين العام إلى 29.8 % في العام 2025، ومن المتوقع أن يبلغ 40.6 % بحلول العام 2030 إذا استمرت وتيرة الاقتراض الحالية، ورغم أن هذه النسب لا تزال ضمن الحدود الآمنة، إلا أن الصندوق شدد على أهمية اتخاذ خطوات استباقية لضبط أوضاع المالية العامة، من خلال توسيع الإيرادات غير النفطية، واحتواء فاتورة الأجور، وإصلاح منظومة الدعم، وتحسين كفاءة الإنفاق العام. كما أوصى الصندوق بضرورة تبني إطار متوسط الأجل للمالية العامة يرتكز على قاعدة للنفقات، بهدف تحقيق عدالة الأجيال وضمان استدامة الموارد المالية، القطاع المالي حظي بتقييم إيجابي، إذ أشار التقرير إلى قوة النظام المصرفي وارتفاع مستويات رأس المال، وانخفاض القروض المتعثرة إلى أدنى مستوياتها منذ 2016، ما يعكس متانة الجدارة الائتمانية والرقابة المستمرة من البنك المركزي السعودي. كما أن سياسة ربط الريال بالدولار لا تزال مناسبة في المرحلة الحالية، وتسهم في استقرار الأسعار ودعم ثقة المستثمرين. في الوقت ذاته، حث الصندوق السلطات المالية على توخي الحذر إزاء تسارع نمو الائتمان، مع أهمية تعميق السوق المالية المحلية وتنويع أدوات التمويل، لا سيما لصالح المنشآت الصغيرة والمتوسطة. من ناحية آفاق النمو، يتوقع التقرير استمرار التحسن في الأداء الاقتصادي خلال السنوات المقبلة، مع بلوغ نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.6 % في 2025 و3.9 % في 2026، مدعومًا بإلغاء تدريجي لتخفيضات الإنتاج النفطي، وارتفاع الإنفاق الاستثماري العام، واستضافة فعاليات دولية كبرى مثل كأس آسيا ومعرض إكسبو وكأس العالم، وهو ما من شأنه تحفيز الطلب الداخلي وتنشيط قطاعي السياحة والبناء. إلا أن هذه التوقعات تظل محاطة بعدد من المخاطر، من بينها ضعف الطلب العالمي على النفط، والمخاطر الجيوسياسية، وتباطؤ الإنفاق الحكومي، إضافة إلى التحديات التي قد تنشأ من تباطؤ نمو الصادرات غير النفطية أو تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة. اللافت في التقرير هو إشادته بقدرة المملكة على قيادة استقرار إقليمي اقتصادي أوسع، في ظل امتلاكها لاحتياطات مالية ضخمة وأصول خارجية تديرها جهات سيادية. كما أشار إلى أن المملكة تلعب دورًا مؤثرًا في الأسواق الدولية من خلال إصدارات الدين السيادي التي باتت تُقابل بثقة عالية من المستثمرين، مما يعكس استدامة السياسات الاقتصادية وقدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المالية. في الوقت نفسه، أوصى الصندوق بأن تستمر المملكة في تبني سياسات صناعية موجهة وشفافة، تكون مكملة للإصلاحات الهيكلية دون أن تزيح القطاع الخاص أو تزاحمه، مع التأكيد على أهمية تسريع إصلاحات التعليم وسوق العمل لتعزيز الإنتاجية وتنويع مصادر النمو. في المجمل، يقدم تقرير صندوق النقد الدولي شهادة ثقة دولية بأداء الاقتصاد السعودي، لكنه يضع في الوقت نفسه خارطة طريق واضحة للحفاظ على هذا الزخم وضمان ديمومة الاستقرار المالي والاقتصادي. فبين مكاسب حاضرة وطموحات مستقبلية، يظل التحدي الأكبر هو الالتزام بتوازن دقيق بين الإنفاق الفعّال والانضباط المالي، وبين النمو المتسارع والحذر من تراكم المخاطر. المملكة اليوم أمام فرصة حقيقية لتعزيز مكتسباتها وتكريس تحولها إلى اقتصاد أكثر مرونة واستدامة، لا يتأثر بتقلبات أسعار النفط بقدر ما يتكئ على قاعدة إنتاجية متنوعة تستند إلى المعرفة ورأس المال البشري والحوكمة الاقتصادية الرشيدة.