« الحرية هي نفيُ الانتماء، والإنسان لا يُدرك ذاته إلا حين يشعر بالغربة»، يُقال. في الزحام، بين من نألفهم، وتحت سقفٍ نُجيد تفاصيله، يأتينا شعورٌ خافت، لكنه جارف، كأنه يقول: لا المكان يُشبهنا، ولا اللحظة تليق بنا، ولا نحن كما كنا نظن، نتحرّك كأننا خارج المشهد، ونعيش حياةً تُملَى، ونُكرّر كلمات لا نؤمن بها، ونبتسم بأقنعة لا نعرف متى لبسناها. تلك الغربة التي لا تُرى، هي فينا، وليست في المكان، وقد تجدها في المسافة التي تتسع بين ما نحن عليه، وما يُطلب منّا أن نكونه، الغربة ليست بالضرورة نفيًا للجماعة، بل استشعارٌ دقيق لفراغ الانتماء، حتى ونحن بين الجميع، هي لحظة ندرك فيها أن كل ما حولنا لا يلامس ما فينا. ليست الغربة عارضًا طارئًا، بل عرضًا لوعيٍ بدأ يتململ، فكلما ازداد صفاؤنا الداخلي، ضاقت بنا القوالب، وافتضح ما لم نعد نحتمله، وحين ننتبه، لا يعود بوسعنا التظاهر، لا يعود بإمكاننا أن نكون كما كنّا، ولا أن نرتدّ إلى ما لم نعد نصدّقه. الاغتراب النفسي نُضجٌ صنع خروجًا من نسخة قديمة من الذات، لم تعد تُقنعنا ولا تُمثّلنا، نغترب حين نتوقّف عن مجاراة الحياة كما هي، لا لأننا نرفضها تمامًا، بل لأننا نبحث عن حياة أكثر صدقًا، في هذا الشعور، تختبر الذات هشاشتها، لكنها في الوقت ذاته، تلمس بدايات عمقها. بعض الاغتراب مؤقت، وبعضه مقيم، لكن حتى الغربة المقيمة ليست نهاية، بل عبورٌ مختلف، هي وقفة بين نسختين منّا: ما كنا عليه، وما بدأنا نقترب منه، وقد تكون الغربة بذرة الانتماء، حين لا نعود نبحث عنه في الخارج، بل نصنعه في دواخلنا، على مقاس وعينا، لا مقاس التوقعات. في لحظة ما، نبدأ بتقشير الزوائد، بتفكيك الأقنعة، بطرح الأسئلة التي لا نجرؤ على مشاركتها مع أحد، هناك فقط، يبدأ الإنسان الحقيقي في الظهور، لا باعتباره كائنًا ناجيًا من الغربة، بل كائنًا تعايش معها، وفهمها، وحوّلها إلى بوصلة. ختاماً. ربما لا نعود يومًا لما كنّا عليه، ولكن لعلنا نغترب لنقترب أكثر... من أنفسنا، وأن نعرف أن الداخل أصدق، وأن الانتماء الذي لا يُطلب، هو وحده الذي يُمنح.