تكبر شيئًا فشيئًا، وتدرك مع الوقت أنك لا تُغريك التجمعات الكبرى، ولا الأماكن المزدحمة، ولا الاختيارات الأكثر رواجًا؛ تدرك أن فضفضة والدتك ظهيرة يوم السبت حول كل أحداث الأسبوع ألذ من حلقة نقاش شيّقة ومعقدة مع بروفيسور يحمل ثلاث شهادات دكتوراه، إحداها عن القطط البرية في صحراء الربع الخالي! وتدرك أن نقاشك اليومي مع إخوتك عند قهوة المغرب، والذي غالبًا ما ينتهي بخلاف لطيف، أطيب على نفسك من وجبة عشاء فاخرة في مطعم يتطلب حجزًا مسبقًا؛ وأن قهوة الفجر قبل طلوع الشمس مع جدك لوالدك في قريتكم النائية عن ضوضاء المدينة، أحلى لديك من تناولها على أطراف بحيرة إنترلاكن. وتدرك أيضًا أن إفطار الجمعة بحضور والدك -الذي تكاد لا تراه إلا في هذه اللحظة نظير عمله وانشغالاته طيلة الأسبوع- أهم لديك من اجتماع مهم مع مدير عملك، الذي تراه في أحلامك أكثر مما تراه في واقعك! ومن جماليات التقدم في العمر أنك تعيش كل لحظة وتعتني بها وكأنها كنز نادر؛ كما في الفلسفة اليابانية "إيشيغو إيشيه" (Ichigo Ichie) التي تعني: "هذا اللقاء لن يتكرر أبدًا". كل محادثة مع والدتك، وكل جلسة قهوة مع إخوتك، وكل مائدة عشاء بحضور والدك لها وقعتها المميزة وتأثيرها الخاص الذي تتلذذ به في كل مرة، مدركًا أن هذه اللحظات لن تعود أبداً. هذه الرؤية التي وُلدت في مراسم الشاي اليابانية في القرن السادس عشر تحثك على أن تحضر في اللحظة بقلبك وعقلك معًا؛ فكل لحظة تستحق أن يُحتفى بها، ككرنفال لا يحدث إلا مرة واحدة كل عام. وليست هذه دعوة للتشاؤم، بل على العكس؛ عندما تدرك واقعية الحياة وحتمية الأشياء، يجب أن تكون هذه المعرفة دافعًا للحياة بشكل أعمق وأوسع. ولن تدرك ذلك إلا عندما تتقدم في عمرك شيئًا فشيئًا، تاركًا خلفك طيش الشباب وحماقة الصبا. والمفارقة هنا هي الشعور؛ إذ كلما تقدمت سنة واحدة، أو حتى نصفها، ستجد أن قائمة أمنياتك تتغير، ودائرة اهتماماتك تتبدل، وأنك تميل إلى تفضيل الشعور والمعنى والوصول للغاية الكبرى بدل الركض خلف الرغبات المؤقتة. هكذا يكون استشعار التقدم في العمر طيبًا وهنيئًا؛ أن تعيش اللحظة، وتقدّر القرب، وتدرك أن ما يمنح الأشياء قيمتها هو تفاصيلها التي لا تُشترى.