فيما سمي بخطاب الوداع شدد الرئيس الأميركي جورج واشنطن -أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية- على أهمية الاتحاد الذي يجمع جميع أطياف الشعب الأميركي ويضمن حريتهم وازدهارهم. وذكّرهم بأن الاستقلال والحرية اللذين تتمتع بهما الأمة حاليًا هما ثمرة المخاطر والمعاناة والنجاحات المشتركة. ولحماية نظام الحكم الجمهوري الذي اكتسبوه بشق الأنفس في اتحاد فيدرالي، يجب على البلاد أن تبقى موحدة وأن تتجنب وحل الأحزاب السياسية والاستقطاب. الآباء المؤسسون بقيادة جورج واشنطن سعوا لعزل الجمهورية الجديدة عن الأحزاب والفئات السياسية المتصارعة، من خلال ترتيبات دستورية متنوعة، كفصل السلطات الثلاث بين تنفيذية وتشريعية وقضائية، أو عن طريق الفيدرالية، أو الانتخابات غير المباشرة للرئيس من قبل الهيئة الانتخابية. ورغم نوايا الآباء المؤسسين وسعيهم، إلا أن الأحزاب السياسية نشأت في الولاياتالمتحدة الأميركية بعد سنوات قليلة من قيام الاتحاد نتيجة انقسام الرأي العام حول بعض القضايا السياسية المهمة، والتي كان من أبرزها الموقف من العلاقة بين السلطة المركزية وسلطة الولايات، وظهر آنذاك في البلاد تياران رئيسان، تيار اتحادي ترأسه ألكسندر هاملتون وحظي بدعم الأوساط الصناعية الناشئة والقوية خاصة في الولايات الشمالية، وتيار اتحادي معتدل ترأسه توماس جيفرسون وكان يدعو إلى حماية حقوق الدول الأعضاء والأفراد في وجه السلطة المركزية، وقد حظي بتأييد الأوساط الزراعية المتمركزة خاصة في الولايات الجنوبية الضعيفة. منذ ذلك الحين وحتى يومنا الحاضر تخضع الولاياتالمتحدة الأميركية بشكل مطلق لهذين التيارين اللذين يمثلهما اليوم الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. تلك الهيمنة التي طال أمدها وتفاقم أثرها السلبي من قبل الحزبين تتعرض من حين لآخر للهجوم والانتقام والمطالبة بمزيد من المشاركة الحزبية خارج حدود هذين الحزبين أو التيارين إذا صح التعبير. يأمل المطالبون بذلك في بناء نظام ثلاثي الأحزاب، بإضافة حزب وسطي قوي إلى الحزبين الحاليين من أجل إتاحة فرصة أن يعيد هذا الحزب تشكيل المشهد السياسي الديمقراطي ويُقلل من استقطاب النخبة. وفي سياق فكرة حزب سياسي ثالث في أمريكا، خرج في الآونة الأخيرة أحد أهم الشخصيات المؤثرة في المجتمع الأميركي وهو رجل الأعمال إيلون ماسك ليجدد المطالبة بإنشاء حزب ثالث يمثل الفئة الوسطية ويعيد التوازن داخل واشنطن، وبحسب تغريدة ماسك سيكون هذا الحزب تحت مسمى "حزب أمريكا"، تلك المطالبة أتت بحسب المراقبين عقب احتدام الخلاف بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسبب قانون الميزانية. وفي هذا الصدد يقول ماسك كما قال العديد من المطالبين قبله: "وضعنا الحالي هو النتيجة الحتمية لنظام الحزبين. سيؤدي هذا النظام دائمًا إلى ترسيخ متزايد للسلطة رغم اعتراضات الناخبين. الحل الوحيد هو تمكين أحزاب جديدة من مسار انتخابي يُمكّنها من تحقيق الاستقرار في البلاد". الرئيس الأميركي دونالد ترمب علق على مطالبة ماسك عبر منصة تروث سوشيال: "أشعر بالحزن لرؤية إيلون ماسك ينحرف تمامًا عن مساره، ويتحول إلى كارثة حقيقية خلال الأسابيع الخمسة الماضية حتى إنه يريد تأسيس حزب سياسي ثالث، رغم أن الفكرة لم تنجح قط في الولاياتالمتحدة، ويبدو أن النظام غير مصمم لذلك". الجدير بالذكر أن ترمب نفسه فكر في الترشح عن حزب ثالث في عام 2000 تحت لواء حزب الإصلاح، لكنه تراجع عن قراره بعد ذلك. السؤال يبقى.. هل فرضية إنشاء حزب ثالث في الولاياتالمتحدة الأميركية قابلة للتنفيذ؟ هناك تحديات وتضحيات من أجل تحقيق هذا الطموح أو الأمل، فالمرشحون ذوو الكفاءة العالية -وهم عادةً من أصحاب المناصب الخبراء- بحاجة إلى التخلي عن الحزب الذي فازوا به في الانتخابات والانضمام إلى هذا الحزب الجديد دون أي ضمانات بالفوز. كما أنهم بحاجة إلى الموارد اللازمة لشن حملات فعّالة. ويُعدّ الدور المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي في توليد ما يُعادل حملات "GoFundMe" الانتخابية سبيلاً محتملاً للحصول على الموارد، وهذه ليست وصفة سهلة على الإطلاق. فسيتعين على أي حزب وسطي في نهاية المطاف أن يُحقق نجاحًا على مستويات عديدة ليصبح خيارًا مستديمًا. ولكن إذا حدث ذلك، فقد يُمسك الوسطيون بميزان السلطة التشريعية، تمامًا كما فعل الديمقراطيون الجنوبيون في أمريكا منتصف القرن العشرين. وعلى المدى البعيد، سيحدث أحد أمرين. قد يستوعب أحد الأحزاب الحالية الوسطيين، ولكن ذلك يتطلب منهم أن يكونوا أكثر اعتدالًا مما هم عليه الآن. أو قد يضغط الوسطيون على أحد الأحزاب الحالية بما يكفي ليحلوا محلهم، ربما يكونون أقل اعتدالًا من موقفهم الأصلي، ولكن من شبه المؤكد أنهم أكثر اعتدالًا من الحزب الذي سيحلون محله. وفق هذه التحديات وهذا التعقيد وعبر تاريخ المحاولات الفاشلة لتأسيس حزب جديد في الولاياتالمتحدة الأميركية، يعد إيلون ماسك أكثر الشخصيات التي تملك القدرة والإمكانية لتحقيق ذلك، ولكن هذا لا يعني أن المشروع سهل أو يمكن تحقيقه خلال فترة تقل عن عقد واحد أو عقدين.