في عصر تتسارع فيه التقنية وتتبدل فيه أنماط الحياة، تظل الهُوية الثقافية حجر الزاوية في تشكيل الوعي الجمعي، وضمان الامتداد الحضاري الأصيل. ومن هنا، يجيء المخيم الصيفي "صُنع في المتحف" – في نسخته الثالثة لهذا العام – كأنموذج رائد في ربط الأجيال الناشئة بإرثهم الوطني عبر بوابة الإبداع والمعرفة. تحت شعار عام الحرف اليدوية 2025، أطلق المتحف الوطني السعودي هذا البرنامج النوعي المجاني للفئة العمرية من 10 إلى 12 عامًا، على مدى أسبوعين مفعمين بالتجربة والدهشة. سلسلة من المسارات المتخصصة – من المشغولات النسيجية والخشبية، إلى الطينية واليدوية – أبحر فيها الأطفال برفقة معلمين أكفاء، أجادوا المزج بين التعليم والتجريب، وبين المعرفة والدهشة، في بيئة تُشبه أحلام الطفولة حين تُزهر بالحرف. ما يميز هذا البرنامج – عدا عن جودته التنظيمية والمهنية – هو أنه لا يقف عند حدود الترفيه الصيفي، بل يتجاوزها إلى المساهمة العميقة في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، عبر تعزيز المسؤولية المجتمعية، وتنمية روح الانتماء والهوية الوطنية، وتفعيل أدوار المؤسسات الثقافية كالمتاحف في بناء الفرد معرفيًا ومهاريًا. كأم أولًا، وكاتبة تنتمي إلى هذا الوطن ثانيًا، رأيت في عيني ابني – حين يعود كل يوم من المخيم – بريقًا من نوع مختلف، ليس بريق شغفٍ عابر، بل مزيج من الفخر والاكتشاف والفضول، عاش التجربة لا كزائر لمتحف بل ك"صانع في المتحف". ولم يكن وحده، بل كان واحدًا من عشرات الأطفال الذين أعيد تشكيل علاقتهم بالتراث لا بوصفه شيئًا من الماضي، بل بوصفه مصدر إلهام للحاضر والمستقبل. إن الجهود التي تبذلها وزارة الثقافة ممثلة بالمتحف الوطني تستحق الإشادة والدعم، لما لها من أثر مباشر على تشكيل وعي الأجيال القادمة، ورفد المجتمع بكوادر تحمل في داخلها تقديرًا لثراء ماضيها، وفهمًا عميقًا لمستقبلها. في "صُنع في المتحف" لم نكن أمام مخيم صيفي فحسب، بل أمام مختبر حيّ لصناعة الهوية، وتفعيل القيم، وتحويل المتحف من مكان يُزار إلى تجربة تُعاش. فشكرًا لكل من أسهم في هذا العمل، من القائمين عليه، إلى المدربين، إلى الأطفال الذين عادوا إلى منازلهم حاملين بين أيديهم قطعًا بسيطة صنعوها بأيديهم، لكنها في جوهرها: كنوز وطنية صغيرة.