ما تقوم به الرياض ينتقل من الدعم السياسي لفلسطين، إلى هندسة لبيئة إقليمية أكثر استقرارًا، وبناء نماذج تنموية متكاملة، لذا، يجب أن يُقرأ تجسيد الدولة الفلسطينية، كرافعة لتوازن إقليمي جديد، يُضعف الروايات المتطرفة من كلا الطرفين. في مشهد سياسي بالغ الدلالة، وقّعت المملكة، نيابةً عن المجتمع الدولي، على الوثيقة الختامية لمؤتمر رفيع المستوى في نيويورك حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وبحضور نخبة من ممثلي الدول الكبرى وبالشراكة مع فرنسا، وأكدت عبر وزير خارجيتنا الأمير فيصل بن فرحان، أنها لا تكتفي بمكانتها كقوة إقليمية صاعدة، بل تؤدي دورًا متناميًا في إعادة تشكيل الأجندة الدولية بشأن أكثر القضايا تعقيدًا وامتدادًا في التاريخ المعاصر، وهي "القضية الفلسطينية". إن ترؤس المملكة لأعمال المؤتمر الدولي، بالشراكة مع فرنسا، ليس –كما يعتقد البعض- بروتوكولاً دبلوماسياً، بل تعبير صريح عن تحول نوعي في الاستراتيجية السعودية تجاه القضايا الدولية، لا سيما المتعلقة بالشرق الأوسط، حيث يعكس هذا التوجه اتساقًا واضحًا مع رؤية 2030، التي لا تنفصل في جوهرها عن البعد الجيوسياسي، فهي تسعى إلى أن تكون ركيزةً عالميةً في صياغة الحلول لا في مراقبة الصراعات. بلغة حازمة ومدروسة عبّر وزير خارجيتنا عن رؤية السعودية "الشاملة والمتكاملة" التي تنظر لحل الدولتين باعتباره مشروعاً إنسانياً وأخلاقياً واستراتيجيًا، وعندما أشار إلى أن الوثيقة النهائية تشمل محاور سياسية، وإنسانية، وأمنية، واقتصادية، وقانونية، وسردية استراتيجية، فقد وضع أُطرًا غير مسبوقة في التعاطي مع الصراع، تفرض معايير جديدة للمبادرات الدولية، وتخرجه من ثنائية "مفاوضات مجمدة" و"مواجهات مفتوحة". في ظل دموية المشهد في غزة، لم يكن غريبًا أن تشدد الوثيقة على إنهاء الحرب، لكن اللافت حقًا هو إدراج هدف "التجسيد العملي" للدولة الفلسطينية ضمن إطار زمني لا يمكن التراجع عنه، وهذا التحول في اللغة والطرح يعكس إصرارًا سعوديًا بمعية شركائها على وقف عبثية إدارة الأزمة، والتحول إلى حلّها جذريًا عبر تنفيذ لا يحتمل المماطلة. ما تقوم به الرياض ينتقل من الدعم السياسي لفلسطين، إلى هندسة لبيئة إقليمية أكثر استقرارًا، وبناء نماذج تنموية متكاملة، لذا، يجب أن يُقرأ تجسيد الدولة الفلسطينية، كرافعة لتوازن إقليمي جديد، يُضعف الروايات المتطرفة من كلا الطرفين. في توازن بالغ الدقة، جددت السعودية عبر الوثيقة والمواقف المعلنة إدانتها للهجمات ضد المدنيين، سواء كانت من هذا الطرف أو ذاك، وفي ذلك رسالة عميقة لمجتمع دولي متورط في انتقائية الإدانة، ومُبتلى بازدواجية المعايير، وهنا، لا ينحاز موقف دولتنا لطرف ضد آخر، بقدر ما ينحاز للإنسان، وللقانون الدولي الإنساني، وللحق في الحياة الكريمة، دون أن يتنازل عن رواية شعب تحت الاحتلال، وحقوق مشروعة، وفي هذا سردية توازن بين الحقيقة السياسية والحس الإنساني، وإعادة بناء الخطاب العربي بلغة تُخاطب الضمير العالمي، لا بانفعالات اللحظة. لم يكن اختيار فرنسا شريكًا في رئاسة هذا المؤتمر عبثيًا، فهو امتداد لتفاهم سعودي-فرنسي أعمق، بدأ منذ سنوات في ملفات لبنان والساحل الإفريقي، واليوم يُترجم في ملف الشرق الأوسط الأشد تعقيدًا، ومن خلالها، ترسّخ السعودية شرعيتها الدولية كقائد سلام يُسهم في إعادة تعريف معادلة النفوذ العالمي في المنطقة، حيث لا مكان للفراغ، ولا مجال للاحتكار الأميركي وحده لمفاتيح التسوية. تُمثل هذه الشراكة انتقالًا ناعمًا من مرحلة "الرعاية الغربية" لعملية السلام، إلى "الوساطة التشاركية" التي تتعدد فيها المراكز، ويعلو فيها صوت من هو أقرب ميدانيًا وإنسانيًا إلى معاناة الشعوب، وعندما دعا الأمير فيصل بن فرحان الدول الأعضاء في الأممالمتحدة لتأييد الوثيقة قبل الدورة القادمة للجمعية العامة في سبتمبر المُقبل، فهو هنا لم يطلب تصويتًا، بل يُقدّم اختبارًا أخلاقيًا وسياسيًا للمجتمع الدولي؛ لأن الوثيقة بصيغتها المتقدمة والمتكاملة، تُعد من أكثر المبادرات وضوحًا وشمولًا منذ مبادرة السلام العربية (2002)، وهي تحظى بغطاء دولي قوي، لكنها تحتاج إلى إجماع سياسي لا يخضع للمصالح العابرة ولا للضغوط الانتخابية. إن التصويت لصالح هذه الوثيقة هو تصويت على مستقبل المنطقة، وعلى إمكانية بقاء القانون الدولي حيًا، وفي المُقابل يُعد رفضها أو تمييعها، رهان خطير على استمرار دورة العنف، وتمديد زمن الاحتلال، وإبقاء غزة والضفة رهائن لحسابات ضيقة. في ختام ما أوردته، يتبيّن أن السعودية لم تعد القيام بدور "الضامن الصامت"، بل تتقدم بثقة وجرأة لتكون الجسر بين المبادئ والتنفيذ، وهي بذلك لا تدافع عن فلسطين فحسب، بل عن مستقبل الإقليم برمّته، ووضعت عبر هذا المؤتمر، المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، ورسمت خارطة طريق تنطلق من التصميم على ما يجب أن يتحقق، وهي ليست مبادرة جديدة تُضاف إلى سجل الجهود، بل نقطة تحوّل قد تعيد كتابة التاريخ إذا ما حظيت بالشجاعة السياسية اللازمة.. دمتم بخير.