بعد طول تأمل في أسرار العدد سبعة والنظر في خصائص اللغة العربية ورمزيتها ودقة الإيحاءات العددية، وتقاطع الألفاظ مع المعاني وتشابكها مع المعمار النصي. وفي قلب هذه المنظومة تطلّ واو الثمانية إشارة لغوية تحتاج تأملًا وإعمالًا فكريًّا. فهل بينهما صلة؟ وهل في ورودهما القرآني حكمة بلاغية؟ فمن المعلوم بالضرورة ورود القرآن على لغة العرب، وكانت العرب تعد السبعة عددًا كاملاً، فإذا جاوزوه، ابتدؤوا عدًّا جديدًا. فتأتي «واو الثمانية» هنا إعلان الانتقال إلى مرتبة جديدة، كما في الرياضيات: نهاية وحدة وابتداء أخرى وهذا يجعلنا ننظر في الأمر من خلال محاور متعددة، المحور الأول: العدد سبعة.. ورمزية الكمال والدورة الكونية (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [نوح: 15]، (السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ) [الإسراء: 44]، (سَبْعَ سَنَابِلَ) [البقرة: 261]، (سَبْعَ بَقَرَاتٍ) [يوسف: 46]، (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) [الحجر: 87]، (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) [الحجر: 44] (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان:27]، (سَبْعَ طَرَائِقَ) [المؤمنون: 17]، (سَبْعِينَ رَجُلًا) [الأعراف: 155]، (إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة) [التوبة 80]. هذا على سبيل المثال لا الحصر فيما يتعلق بوروده في القرآن الكريم. وفي العبادات: الطواف حول الكعبة سبعة، السعي، الجمرات. وفي جملة الأحكام أيضا يقابلنا: السبع الموبقات.... وفي الرموز الكونية أيضا النيترونات سبعة والأرضين سبعة. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق: 12]، ألوان الطيف، أيام الأسبوع، عجائب الدنيا، طبقات الذرة.... الكمال الرمزي: انتهاء الشيء عند سبعة يوحي بالتمام في الوجدان العربي والقرآني والكوني أيضا. وفي البلاغة: استعماله للكناية عن الكثرة أو الإحاطة. المحور الثاني: واو الثمانية.. فصل بعد تمام السبعة ما واو الثمانية؟ مصطلح بلاغي أطلقه العلماء على الواو التي تأتي قبل العنصر الثامن في سلسلة من الصفات أو العناصر التي بدأ تعدادها من الواحد حتى السبعة، وهي ليست واو عطف بالمعنى العادي، بل تؤدي دورًا تعبيريًا وانتقاليًّا خاصًا. وقد لاحظ علماء اللغة أن القرآن استخدم هذه الواو عند الانتقال من السبعة إلى الثامن في مواضع محددة، ما أثار اهتمام البلاغيين والنحويين، وجعلهم يتأملون ما إذا كانت هذه الواو مقصودة في موقعها ولها وظيفة بلاغية؟ موضعها الأشهر: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73] في سياق الجنة، مقابل (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 71] في سياق جهنم. أيضا: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ... وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف: 22]. هنا نجد أن واوًا سبقت «ثامنهم»، بخلاف الأعداد السابقة (ثلاثة، خمسة...) التي لم تُسبق ب واو. لماذا؟ قال المفسرون إن الواو هنا تفيد: * الدخول في عقدٍ جديد بعد اكتمال السبعة. * بلاغة العدد وإبراز التمايز بين السبعة والثامن. * أو أنها للتمييز بين القول الحق والظن الباطل؛ لأن القول (سبعة وثامنهم كلبهم) أقرب للصواب، لذا صيغ بدقة وتمييز بلاغي. * تحليل بلاغي: الواو تفيد التفصيل بعد الإجمال، أو التمييز للثامن بعد تمام السبعة. وفي قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 112] تم سرد سبع صفات دون واو، ثم جاءت «الناهون عن المنكر» مسبوقة بالواو، لتدل على: * دخول صفة ثامنة مميزة. * تعظيم هذا الخُلق، لأنه محور الإصلاح. * إبراز منزلة هذه الصفة ضمن سلّم القيم. وفي قوله: (مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) [التحريم: 5]، ذكرت ست صفات، ثم جاءت الواو قبل «أبكارًا» لتكون الثامنة، فتدل على عقد كامل من الصفات التي تتوافر في زوجات النبي (ص) المختارات. والواو هنا تبرز هذا العنصر ضمن تركيبة متوازنة وهي أيضا للفصل بين أخر صفتين. إذن نستطيع القول بأن: «السبعة» حدّ التمام، و»الثامن» بداية الامتداد. وأن الواو تفيد الفصل بعد عدد له رمزية الاكتمال. المحور الثالث: هل هذا الاستعمال قاعدة لغوية؟ * لا تُعد «واو الثمانية» قاعدة نحوية صارمة، وإنما ظاهرة بلاغية راقية وفريدة في نظم القرآن الكريم، تتجلى فقط في سياقات معدودة، وتخضع لحكمة السياق والبيان، لا للتكرار الآلي. * وقد أنكر بعض النحويين كابن هشام أن يكون للعدد تأثير في وجود الواو، واعتبرها واوًا عادية للعطف، إلا أن البلاغيين كالسيوطي والحريري وابن جماعة اعتبروا هذا من دقيق أسرار العربية. * كثير من العلماء المعاصرين يرون أن هذا النوع من النظم يُعد من وجوه الإعجاز البياني، لأنه لا يتكرر عبثًا، بل بحكمة لفظية دقيقة. * واستخدام الواو بهذا الموضع يدل على سبق القرآن في التعبير عن الفواصل الدلالية، دون حشو، مع الحفاظ على الجمال اللفظي للنص. وفي نهاية المطاف التأملي نجد أن العدد في اللغة العربية ليس مجرد رقم، إنما دلالة ذات وظيفة ومعنى، والواو ليست دائمًا للعطف، وإنما تحمل شحنة بلاغية أعمق. والجمع بين «السبعة» و»واو الثمانية» يكشف لنا عن توازن بياني بديع.