لم تعد الضغوط المهنية في البيئة الأكاديمية مجرد شكوى عابرة، بل تحولت إلى تحدٍ يهدد جوهر رسالة الجامعات والمتمثلة في ثلاثة محاور رئيسة: (التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع). يجد الأستاذ الجامعي "حامل مشعل المعرفة" نفسه محاصراً تحت وطأة عبء ثلاثي ثقيل: تدريس مكثف يتسارع مع تطور المناهج وارتفاع التوقعات، وسباق محموم للنشر في دوريات مرموقة تحت شعار "انشر أو تُفنى" (Publish or Perish)، ومتطلبات متزايدة للإسهام في خدمة المجتمع والإدارة الأكاديمية، وسط منافسة شرسة على التمويل والترقيات وتحديات التكنولوجيا المتسارعة. تشير تقارير منظمة الصحة العالمية (2022) إلى أن قطاع التعليم العالي من بين القطاعات الأكثر تأثراً بالإجهاد الوظيفي عالمياً وهذا الضغط المتعدد الأوجه لا يبقى حبيس صدر الأكاديمي، بل تظهر آثاره جلية متمثلة في الإرهاق وظيفي (Burnout) والذي ينهك الروح والجسد، ويؤدي إلى تراجع الرضا الوظيفي والإنتاجية البحثية، وبالتالي تأثر الصحة النفسية والذي قد يصل لمستويات عالية من القلق والاكتئاب. وكنتيجة حتمية لما سبق، ستقل جودة التفاعل مع الطالب، ويتراجع العطاء البحثي المبتكر، وفي الحالات الأشد، قد يؤدي هذا الإرهاق إلى تسرب الكفاءات المميزة من السلك الأكاديمي، مما يهدر استثمارات ضخمة في بناء العقول وفق ما أظهرته دراسة موسعة مرتبطة بجامعة كامبريدج والتي نشرت في العام (2021). إن مواجهة هذا التحدي تتطلب رؤية متكاملة ومسؤولية مشتركة على المستوى المؤسسي، تقع مسؤولية فكّ هذا النوع من الضغوطات من خلال مراجعة عبء العمل لتحقيق توازن واقعي وعادل بين مهام التدريس والبحث والخدمة المجتمعية والإدارية، مع توزيع المهام بإنصاف، كما يشكل دعم البحث العلمي ركيزة أساسية في توفير الرفاهية الأكاديمية عبر توفير الموارد الكافية من وقت وتمويل ومساعدين وباحثين، بالتزامن مع تخفيف الإجراءات البيروقراطية التي تستهلك طاقة الأكاديمي دون طائل. مما لا شك فيه، أن البيئة التنظيمية الداعمة هي الحاضنة الأساسية لتعزيز هذا النوع من الرفاهية وذلك من خلال بناء و تعزيز ثقافة مؤسسية تقوم على التقدير المتبادل والتواصل الفعال، وتوفير برامج دعم نفسي ومهني ملموسة، كالمبادرات المحلية الناشئة (مثل: برنامج "رفاه")، بالتزامن مع تطوير قدرات القيادات الأكاديمية لتصبح داعمة ومدركة لطبيعة الضغوط وكيفية سبل تخفيفها. إن المسؤولية لا تقع على المؤسسة وحدها، فالأكاديمي الفرد شريك رئيس في حماية رفاهيته وهذا يتطلب وعياً شخصياً وقدرة على رسم حدود واضحة بين الحياة المهنية والشخصية، وشجاعة في قول "لا" للمهام التي تفوق الطاقة وتشكل إرهاقاً غير مبرر. كما أن إتقان فن إدارة الوقت الذكي، عبر تحديد الأولويات واستخدام أدوات التخطيط الفعّال ومقاومة المماطلة، يُعد سلاحاً ضرورياً بالإضافة إلى الالتزام الجاد بالرعاية الذاتية، من خلال إعطاء الأولوية للنوم الكافي، والتغذية المتوازنة، والنشاط البدني المنتظم، وممارسة الهوايات الخاصة مع الاستعانة بتقنيات بسيطة وفعّالة مثل التأمل وتمارين التنفس العميق لتهدئة الذهن وزيادة التركيز. أضف إلى ذلك، ضرورة تعزيز شبكة الدعم النفسي والمجتمعي المحيطة سواء عبر التواصل الإيجابي مع الزملاء، أو طلب المشورة، أو اللجوء إلى المساعدة المهنية المتخصصة عند الحاجة، وتطوير المهارات الشخصية في مجالات كالتواصل الفعّال وإدارة الوقت لتعزيز الكفاءة والثقة. وختاماً، الاستثمار في رفاهية الأكاديمي ليس ترفاً، بل هو استثمار استراتيجي في مستقبل التعليم والبحث العلمي فالأستاذ المطمئن نفسياً، المتوازن مهنياً، هو القادر حقاً على الإبداع في مختبراته وفصوله، وعلى إلهام طلابه وتحفيز فضولهم المعرفي، وعلى الإسهام بفاعلية في تنمية المجتمع. إن دعم استدامة التميز الأكاديمي وتحقيق أعلى معايير جودة التعليم الذي تتطلع إليه رؤيتنا الطموحة 2030 لبناء اقتصاد معرفي رائد تعتبر أولوية وطنية قصوى. فكلاهما (التميز الأكاديمي وجودة التعليم)، في نهاية المطاف، تبدأن من رفاهية وعطاء من يبني عقول أجيال الغد ويساهم في بناء مستقبل الوطن. *رئيس قسم الكيمياء الحيوية كلية العلوم - جامعة الملك سعود