منذ تولي الرئيس السوري أحمد الشرع مهامه رسميًا، تشهد العلاقات السعودية-السورية تحولًا استراتيجيًا واضحًا، لا يمكن قراءته إلا في سياق التبدلات العميقة التي يشهدها المشهد الإقليمي. فالمملكة، التي لطالما تبنت نهجًا عقلانيًا قائمًا على الاعتدال والانفتاح، تتحرك اليوم ضمن رؤية متكاملة تستهدف دعم الاستقرار في المنطقة عبر إعادة وصل ما انقطع، وتمكين الدول العربية من تجاوز مرحلة التصدع والانقسام. هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل يعكس قناعة سعودية متنامية بأن استعادة سوريا لمكانتها العربية ضرورة، وليس خيارًا. دمشق، بتاريخها وعمقها الجغرافي والسياسي، لا يمكن أن تبقى خارج دائرة الفعل العربي، ولا أن تُترك ساحة مفتوحة لتدخلات غير عربية تقرر مستقبلها. منذ اليوم الأول لوصول الشرع إلى الرئاسة، بدت المملكة مستعدة للتفاعل الإيجابي مع المتغير الجديد، جاء الترحيب السعودي سريعًا وواضحًا، حاملاً في طياته رسائل دعم سياسي وشخصي، ومؤشرًا على رغبة المملكة في إعادة بناء الثقة مع القيادة السورية الجديدة، والتأسيس لمرحلة مختلفة قوامها الحوار والتفاهم. وقد تجلى الدور السعودي بشكل بارز في دعم عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، من منطلق أن معالجة الأزمات تبدأ من داخل البيت العربي، لا من خارجه. وعن التعاون الأمني فقد نوقشت أبرز الملفات التي تصدّرت جدول التعاون الثنائي، وتحديدًا مكافحة تهريب المخدرات. فالمملكة، باعتبارها خط الدفاع الأول عن الخليج، عانت خلال السنوات الأخيرة من تدفقات خطيرة لمادة "الكبتاغون"، المرتبطة بشبكات تهريب نشطة داخل الأراضي السورية. ولهذا، جاء توقيع اتفاقية أمنية بين الجانبين كخطوة أولى نحو بناء آلية مشتركة لضبط الحدود، وتعزيز التنسيق الأمني، لا سيما في الجنوب السوري والمناطق المحاذية للأردن والعراق. كما لم تغب ملفات إقليمية أخرى عن المباحثات، أبرزها دعم الاستقرار في لبنان، وتحجيم تأثير الجماعات المسلحة الخارجة عن مؤسسات الدولة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد بادرت المملكة إلى إطلاق خطة شاملة لدعم الاقتصاد السوري، بالتعاون مع شركاء إقليميين، هذا الدعم لم يكن عشوائيًا، بل جاء ضمن منهجية واضحة تستند إلى الحوكمة، والاستثمار في القطاعات الحيوية كالبنية التحتية، والتعليم، والصحة، والطاقة والزراعة. كما فتحت المملكة المجال أمام شركاتها الكبرى للاستثمار في سوريا، وفق ضوابط تراعي الشفافية وتخلق فرصًا حقيقية للتنمية، بعيدًا عن شبكات الفساد التي أنهكت الاقتصاد السوري سابقًا. ولم تغفل المملكة البُعد الإنساني في مقاربتها للملف السوري، بل شكّل ذلك أحد الأعمدة الرئيسة في استراتيجيتها. عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، تم تنفيذ عشرات البرامج في الداخل السوري، شملت توزيع المساعدات الغذائية والدوائية، وتوفير مراكز إيواء للنازحين، خاصة في المناطق المتضررة من الحرب. ما تقوم به المملكة في سوريا لا يمكن حصره في خانة المساعدات أو المبادرات الدبلوماسية، بل هو جزء من رؤية شاملة تنظر إلى المنطقة ككل، وتسعى لإعادة ترتيب أولوياتها، عبر دعم الدول التي تستعيد استقرارها، وتمكينها من بناء مؤسساتها، بعيدًا عن الاستقطاب الإقليمي والدولي. إن الدعم السعودي لسوريا لا يهدف فقط إلى المساهمة في تجاوز آثار الحرب، بل يسعى إلى بناء شراكة طويلة المدى، تقوم على احترام السيادة، وتحقيق المصالح المشتركة، واستعادة التوازن العربي، الذي يمثل حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي مستقبلي. تبدو العلاقة السعودية-السورية مرشحة لأن تكون نموذجًا ناجحًا لإعادة دمج الدول المتضررة في المنظومة العربية، بشروط الاستقلال والسيادة والتنمية. وما تقوم به المملكة في هذا السياق هو تجسيد عملي لرؤية القيادة السعودية، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- القائمة على صناعة السلام عبر التنمية، وبناء الاستقرار عبر الشراكات لا الوصايات.