تخيل أن ذلك العاشق طلب من قائد الطائرة أن ينزله عندما رأى محبوبته -وهو في سلم الصعود إلى الطائرة- بين نخلة وبيت! الأمر ليس خيال شاعر، وإنما حقيقة، فالمطار والبيوت والناس كانوا في حدود هذا الحيز المكاني الذي يرى فيه راكب الطائرة تفاصيل المدينة. مشهد اقتنصه شاعر وغناه فنان، وأصبح صورة مسجلة تناقلتها أجيال وربما لم يتمعن في كلماتها بدقة إلا المهتم برصد شكل الحياة من خلال كل ما يمكن أن يسهم في تشكيل صورة عن الحياة في مختلف الفترات، ولنأخذ مدينة الرياض بالتحديد مسرحاً محتملاً وافتراضياً لأحداث هذه القصيدة. الرياض مدينة القفزات الحضارية، ومدينة الحلم السعودي التي كان السفر إليها حلم أبناء المملكة العربية السعودية من ساكني الأرياف والقرى والبوادي. لم تعد الرياض مدينة النخلة والبيت، وأصبحت مدينة النخيل والبيوت والمساجد والمدارس والجامعات والمستشفيات والأبراج العالية والحركة التي لا تهدأ، ولم تعد الثقافة تقتصر على ثقافة البادية والريف والحاضرة، ولكنها لا تنفك عنها ولا تنفصل عن عراها المتينة من دين وشيم وقيم وأعراف ومعروف، نحن شعب نتطور وننمو كالنخلة، ولكن دون أن ننفصل عن جذورنا وقيمنا. وتظل نخلة تطورنا تظلل بيتنا السعودي، وتغدق علينا من ثمارها اليانعة المباركة، وتبقى هي تلك النخلة وذلك البيت اللتان انبثقت منهما كل هذه الحياة الحافلة، وهي ذات الثقافة في مفهومها العميق. مسيرة مملكتنا العربية السعودية مسيرة من شظف عيش إلى رغد وأنعام لا تعد ولا تحصى، بعد حياة كدح وشقاء وتنقل من أجل لقمة العيش، وتحسس طريق إلى حياة ترضى بما يقوم صلب الحياة، ويحفظ ماء وجه المعسر والميسر على حد سواء، فالحياة كانت في أغلب الأحوال حياة كفاف وبالكاد حد الاكتفاء. عندما نقرأ في ثنايا أدبنا النثري والشعري، وخصوصاً الشعر والحكاية الشعبية والرواية الحديثة التي تتحدث عن الحياة قبل النفط وبعده بقليل، وحتى في كلمات بعض الأغاني الخالدة، وكيف أن الحياة قاسية كجبال عسير وشاسعة كصحارى نجد وغادرة كمياه البحر، وكيف أن أرواح أهلها تتعاكس معها فهي أرواح حانية متقاربة وفية؛ نكون أكثر حرصا على أن نتمسك بوطننا ومنجزنا وثقافتنا التي تحتوي وتستوعب وتبني بنيان التطور والتنمية على قواعد ثقافة متينة راسية. مشاهد الحلم السعودي مدونة، ومحفوظة في كل تراثنا الأدبي، وفي أغانينا وكلماتها، وفي صدور آبائنا وأجدادنا الذين تركوا لنا هذا الإرث العظيم من أحاسيس الانتماء لكل ما يربطنا بوطننا، ويصور لنا الحياة حتى في كلمات أغنية لم يتعمد كاتبها أن تكون وثيقة اجتماعية ولكنها أصبحت كذلك، أصبحت الذكريات التي تشجينا بذلك الصوت الندي الذي قال: روحي وما ملكت يداي فداه، وطني الحبيب وهل أحب سواه!