الاعتدال في الإنسان يجسده التصرف والسلوك طبقاً لما يحمله من صفات متعددة ومتضادة في الوقت ذاته، فعلى سبيل المثال المحبة ويقابلها الكراهية، الرفق ويقابله الغلظة، التسامح ويقابله التشدد، التواضع ونقيضه الكبر. هذا جزء يسير مما يحمله الإنسان وهي أشبه بالشركة التضامنية، ويخضع القرار قبل أن يصادق عليه رئيس مجلس الإدارة العقل المدبر لتوصيات قد تؤثر على مسار القرار من أعضاء مجلس الإدارة الفاعلين والمؤثرين بالوقت نفسه كالقلب مثلاً، فإذا رفض القلب قراراً معيناً فإن العقل لا يمكن أن يصادق عليه دون الخوض في الحيثيات من زيادة في الخير وعمله أو زيادة في الشر وعمله، لذلك كانت سلامة القلوب هي المقياس لليقين، انطلاقاً في هذا الاتجاه فإن المؤمن يحرص أشد الحرص قبل الشروع في عمل معين على تبعات هذا العمل لا سيما وأنه يدرك تماماً أن كل شيء محسوب، قال تعالى: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ"، مسألة التدقيق والتثبت والتحقق بالغة الأهمية، والقلب وهو يحمل هذه المسؤولية الجسيمة وكيف يؤدي دوره بدقة متناهية حيَّرت العلماء إضافة إلى العنصر المدبر ألا وهو العقل المفكر، والذي لم تصل تعقيداته المتراكمة إلى حيرة العلماء فحسب بل إنها بلغت حد الانبهار لتشابك تركيباته المعقدة "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ". الاعتدال لا يخرج بحال من الأحوال من إطار هذين العنصرين المهمَّين والمؤثرين جداً في حياة الإنسان، فالجوارح الأخرى بالإنسان من يد يبطش بها أو رجل يمشي عليها وإن كانت لهذه الأعضاء فاعليتها وضروراتها، إلا أنها في واقع الأمر لا تستطيع التحرك بمعزل عن العقل الذي يمنح الإشارة بالبدء عطفاً على توصيات بقية الأعضاء وفي مقدمتهم القلب، لينصهر الجميع في بوتقة مكونة التصرف والسلوك، من هنا تبدأ مرحلة التأثير والتأثر. ومن نعم المولى -جلَّت قدرته- أنه منح الإنسان فرصةً فسحة لتدارك ما بدر منه من إساءة، إذن هناك مساحة مقدرة قبل أن يلحق الندم بالفعل وهذه المساحة تتيح للمتأمل التحري، وكذلك التريث وعدم الاستعجال لكيلا يصبح بين مطرقة الانفعال وسندان سوء الأعمال. ولما كان للكم الهائل من صفات أيضاً يحملها الإنسان وليست ملموسة كما هي الأعضاء في الجسم من أحاسيس ومشاعر وانطباع وتصوُّر وإدراك وغضب وغلظة وتسرُّع وحكمة إلى آخر هذه الصفات غير المرئية والملموسة فإن لها نصيباً في التأثير إلا أنها تكون للتنفيذ أقرب، وتساهم مجتمعةً بشكل فاعل في بناء شخصية الإنسان، فكلما كان التناسب دقيقاً من حيث الكم والكيف كلما تمازجت هذه المؤثرات مع بعضها البعض لتسهم في بناء الشخصية المعتدلة وفق الاستقاء من رحاب الإيمان فتكون أقرب إلى الاتزان، فلا إفراط ولا تفريط. المهندس يعمل حساباته في البناء وفقاً لنظريات علمية فيخطها على الورق، وبالتالي يفرضها على أرض الواقع من خلال التطبيق، بينما يبقى الإنسان خاضعاً لعملية هندسية أكثر تعقيداً؛ لأن المواد التي يستعملها المهندس محدودة من حيث الكم والكيف أمام زخم الصفات التي يحملها الإنسان، وهي تقديرية، وكيفية المواءمة مع متطلبات المراحل التي يمر بها وغربلة المفاهيم من حين لآخر لتظل الشخصية متماسكةً بمنأىً عن وعورة المسالك والوقوع في طريق المهالك، فالذهن يعمل على تحليل الاستقاء وتشكيل النمط اللائق والمواكب للقناعة، فيما تكون مسألة ترويض الفكر ضرورة حتمية للحد من تسرب الجنوح المفضي إلى الوساوس والشكوك البغيضة، الفكر في الإنسان مركز الطاقة وينبغي عدم الاستهانة بقيمته وتأثيره سواء كان ذلك بالتعطيل أو التضليل، إذ يجب والحالة تلك التعامل بقدر كبير من الموضوعية إزاء التشويش والارتباك نتيجة لضعف تمرير الوسائل في مواجهة قوة التأثير والتفاف الشكل على المضمون. ولعل من أبرز الأسباب المهيئة لعدم تمرير التأثير بشكل سلس هو نظام الاحتواء المفتقر للشفافية والمرونة والفاعلية كذلك، كل مخالف في داخله بذرة طيبة تكره الخطأ، وتحتاج إلى العناية والتنمية في مواجهة سطوة الرغبة والمحفزات المختلفة، وحينما يحرص الإنسان على زرع نبتة معينة فإنه يحرص عليها، فإن سقاها فوق ما تحتاج فإنه سيهلكها، فضلاً عن ملاحظته لها وحمايتها من الهواء والأمطار وخلاف ذلك، لذا فإن العناية بالبذرة التي نمت أغصانها في بيئة صالحة تبيت أكثر إلحاحاً، إذ لم تكن الذائقة لمرارة المخالفة عديمة الجدوى بقدر ما يساهم الضعف والغفلة عن هذا الأمر، التصويب والإسهام في إصلاح المجتمعات يتطلب كذلك مهارات كمهارة الاتصال وإدراك لمستوى النفسيات والتعامل معها بحرفية مهنية وفقاً لتباين المستويات سواء من ناحية الفهم أو العمر أو الجنس، إلى جانب أن إصلاح الإعوجاج وترميم الانحراف السلوكي لا يؤتي أكله ما لم تتم الإحاطة بالجزئيات والدوافع، فالمخالف من حيث المبدأ سيقبل النصح ويمضي ولن يلبث أن يعاود الكَرّة طالما أن القناعة لم يصلها مستوى التأثير، ولم تحاكِ مشاعره وأحاسيسه جدوى العزوف عن المخالفة أو تلك، الدافع كيد الشيطان والحافز رحمة الرحمن الكريم المنان، إشاعة النور والمحبة لقيمة الثبات على المبدأ من الضرورة بمكان، المبدأ جميل ويكمن جماله في راحة الضمير والرضا عن النفس، ويتبادر إلى أذهان الشبان والفتيات بأن الالتزام بالمبدأ يعني فرض القيود وحبس الحرية، وهو على عكس ذلك تماماً. المبدأ معرفة الحدود وليس فرضاً للقيود، هو الموجه والراصد الدقيق لسلامة التفكير وحسن الظن بالمولى تبارك وتعالى الرحمن الرحيم، إضافة إلى أن الشاب أو الفتاة حينما يقع في المخالفة ويجره الشيطان إلى المعصية فإنه حتماً يشعر بالندم ويرغب في العودة إلى الاستقامة وواحة الاطمئنان، وربما يقرأ أو تقرأ الآية الكريمة قول الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، ولا يفهم القصد، فالمقصود بالجهالة في الآية: الإقدام على معصية الله وبالأحرى السفاهة، وليس المقصود أنه لا يعلم من الأصل أن ما يفعله ذنب ومعصية، فهذا إن تاب من قريب تاب الله عليه، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وورد في الحديث الشريف: (كلُّكُم خطَّاءون وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ)، وهذا من فضل الله وواسع رحمته بعباده، والرسالة إلى المربين والمربيات الأفاضل في تيسير وتسهيل ما يتعسر من فهم لمقاصد المبدأ، ليتحلى به الشبان والفتيات عن حب ودراية وقناعة واستقامة، وهو اعتداد في الهوية واعتزاز في الشخصية، وهكذا ينخفض مؤشر المخالفات -بإذن الله- طبقاً لدرء التفكير في المعصية ووأدها في مهدها، وهنا تكمن البراعة في تمرير البرامج الإصلاحية، الخبرة في الميدان وقراءة الواقع بدقه وتجرد شأن لا يستهان به، وعلى هذا فإن مزج الخبرة بالمعرفة العلمية ستسير نحو الإصلاح بآفاق أوسع وتطلع يرنو إلى معالجة الأسباب، من هنا ينبغي أن لا يضعف التركيز والاهتمام في الكليات الإنسانية والتي يقع على عاتقها جزء كبير في ضبط إيقاع الجانب التربوي والمعرفي، فعلم بلا أخلاق كشجر بلا أوراق، بل إن حضارات الأمم تتكئ على هذه الجوانب المؤثرة لتهيئة البنية المعرفية والأخلاقية وفق سياق تربوي يسير بها نحو الأمام كرافد رئيس للطفرة التعليمية العلمية التي تشهدها بلادنا ولله الحمد، وفي إطار تحقيق أهداف رؤية 2030 المباركة، وبالله التوفيق. حمد عبدالرحمن المانع