في يوم الاحتفاء بالذكاء الاصطناعي، يحسن بنا أن نتأمل التحوّل العميق الذي طرأ على هذه التقنية؛ فبعد أن كانت مجرد ابتكار واعد، أصبحت اليوم شريكاً موثوقاً ومحورياً في بيئات العمل الحديثة. لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي أدواره التقليدية، التي اقتصرت على تنفيذ المهام المهيكلة مثل إعداد التقارير وتحليل السجلات وتشغيل العمليات الروتينية، لينتقل إلى أفق أكثر استقلالية. فهو لم يعد في وضعية "الانتظار لتلقي الأوامر"، بل أصبح قادراً على اتخاذ قرارات ذاتية مستنداً إلى أهداف المؤسسة وسياق عملها. ضغطة واحدة... وتتكفل التقنية بالباقي. تشير البيانات العالمية إلى أن وتيرة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي اليومية قد ارتفعت بنسبة 233% خلال ستة أشهر فقط، حيث بات قرابة 40% من الموظفين يتعاملون بانتظام مع وكلاء ذكاء اصطناعي. هذا التحول يعكس تصاعد مكانة هذه الأنظمة بوصفها شركاء فاعلين في إنجاز المهام اليومية. وتمثل فئة "الذكاء الاصطناعي القائم على الوكلاء" – وهي فئة ناشئة – نقلة نوعية؛ إذ لا تقتصر وظيفتها على الاستجابة للأوامر، بل تبادر بالفعل، وتراقب ما يدور، وتقيّم الأولويات، ثم تتخذ الإجراءات الملائمة. وبالنسبة للمؤسسات في منطقة الشرق الأوسط الساعية إلى تسريع تحولها الرقمي، فإن هذه النقلة تمثل نقطة انعطاف استراتيجية. الذكاء الاصطناعي كعضو فعلي في فريق العمل بات الذكاء الاصطناعي حاضراً بفعالية في قطاعات حيوية مثل اللوجستيات والطاقة والخدمات المالية. ولم تعد الغاية من استخدامه مقتصرة على استكشاف إمكانات الأتمتة، بل أصبح التركيز منصباً على دمجه في سير العمل الواقعي. ويتطلب ذلك فهماً دقيقاً لمواضع فعاليته، وحدوده، وآليات تكامله مع الفرق البشرية دون التأثير سلباً على الكفاءة. تُسند إلى هذه الأنظمة مهام متنوعة تشمل مراقبة البنية التحتية، ورصد الاختلالات، وتشغيل أنظمة التشخيص، وتحسين التفاعل مع العملاء. لكن الهدف الجوهري ليس إحلال الإنسان، بل إرساء بيئة عمل تعاونية يعمل فيها البشر والذكاء الاصطناعي جنباً إلى جنب في العمليات اليومية. تخيّل فريقاً متعدد الاختصاصات يضم مسؤول التزام، ومحللاً لسلسلة التوريد، ومديراً تقنياً، إلى جانب وكيل ذكاء اصطناعي، يتعاونون سوياً لحل مشكلات العملاء أو مراقبة الأنظمة بشكل لحظي. هذا هو نموذج "الإنسان في الحلقة" (Human-in-the-loop) بكل معانيه: تعاون متكامل بين الذكاء الاصطناعي والعقل البشري. وتُظهر تقديرات شركة PwC أن الاستثمارات في هذا المجال قد تضيف ما يصل إلى 232 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة بحلول عام 2035، مما يعكس انتقال الذكاء الاصطناعي من مجرد مصطلح شائع إلى ضرورة اقتصادية ملحة. معادلة الثقة في الأنظمة الذكية مع تزايد قدرة وكلاء الذكاء الاصطناعي على العمل باستقلالية، تصبح مسألة الثقة جوهرية. إذ لا يمكن للمنظمات أن تعتمد على أنظمة لا يمكن تفسير قراراتها أو التحكم في مخرجاتها. ولهذا، فإن مفهومي الشفافية والمساءلة باتا من المتطلبات الأساسية في أي استراتيجية مؤسسية معنية بالذكاء الاصطناعي. ويبدأ ذلك من مرحلة التصميم، إذ يجب أن تتضمن البنية التحتية للأنظمة آليات حوكمة واضحة منذ البداية. فإذا كان للذكاء الاصطناعي أن يتخذ قراراته بشكل ذاتي، فلا بد من تمكين البشر من فهم كيف ولماذا اتُّخذت تلك القرارات: ما نوع البيانات المستخدمة؟ ما العوامل المؤثرة؟ هل هناك انحراف تدريجي في النتائج مع مرور الوقت؟ هذه الأسئلة تكتسب أهمية خاصة في القطاعات الحساسة مثل البنوك، والرعاية الصحية، والطاقة. وعندما تُبنى بيئة عمل تتسم بالثقة، فإن النتائج تكون ملموسة. فقد أشار 68% من الرؤساء التنفيذيين في دول الخليج إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي عزز من إنتاجيتهم الشخصية، بينما أبلغ 66% عن تحقيق تحسّن فعلي في الأرباح خلال العام الماضي. مواضع تشغيل الذكاء الاصطناعي: الأهمية الاستراتيجية للمكان بدأت العديد من المؤسسات في الخليج العربي بإعادة النظر في مواقع وكيفية تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي. فبدلاً من نقل البيانات الحساسة عبر الشبكات، اتجه البعض إلى ما يُعرف ب"نقل النموذج إلى موقع البيانات"، وهو نهج يسمح بتشغيل التطبيقات محلياً أو ضمن أطر حدودية آمنة، دون انتهاك معايير الامتثال التنظيمي. وفي القطاع المصرفي على سبيل المثال، يُتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي في رفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة إضافية تبلغ 13.6% بحلول عام 2030، ما يعكس التأثير الملموس لوكلاء الذكاء الاصطناعي في البيئات عالية الحساسية. وفي مثل هذه النماذج، تتجلى أهمية المنصات الهجينة، التي تتيح مرونة في النشر والحركة، دون المساس بمستوى التحكم والمساءلة. وهذه المرونة ضرورية للشركات التي انتقلت من مرحلة التجريب إلى مرحلة التوسع في تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع. الأساس المتين: البيانات المنظمة لا يمكن لأي من هذه الابتكارات أن يحقق أثره ما لم يُبنَ على قاعدة بيانات قوية. فالذكاء الاصطناعي القائم على الوكلاء ليس سحراً، بل يعتمد على بيانات مُنظمة، مترابطة، ومُهيأة بعناية. ومعظم المؤسسات لا تزال في طور التعامل مع هذا التحدي؛ فقد يتطلب الأمر إعادة هيكلة صيغ البيانات، أو تحسين إمكانات الوصول إليها، أو تفكيك العزلة بين الأنظمة لجعلها أكثر ترابطاً وانسجاماً. لكن لا ينبغي إغفال البُعد الثقافي. إذ لا بد أن تتقبل الفرق العمل جنباً إلى جنب مع الأنظمة المؤتمتة، ويجب على القادة تحديد مواضع استخدام الوكلاء الذكيين بدقة ووضوح، مع ضبط إيقاع الأداء بما يخدم أهداف العمل. نلحظ في المنطقة حراكاً واضحاً نحو المستقبل؛ فالحكومات تستثمر في بنى تحتية متقدمة، والمُنظمون يعملون على صياغة أطر تنظيمية لاستخدام مسؤول للذكاء الاصطناعي، بينما بدأت الشركات تنظر إلى البيانات باعتبارها أصلاً استراتيجياً وليس مجرد ناتج ثانوي. القوى العاملة الهجينة... واقع قائم إن مستقبل العمل لا يتمحور حول صراع بين الإنسان والآلة، بل يتمثل فيما يمكن تحقيقه حين يعمل الطرفان ضمن منظومة واحدة، بأدوار واضحة، ومساءلة متبادلة، وأهداف مشتركة. ولا يزال الذكاء الاصطناعي القائم على الوكلاء في بداياته. أما المؤسسات التي ستثبت قدرتها على الصمود والتكيف، فهي تلك التي تتبنى هذه الوكلاء بوصفهم شركاء يعززون الأداء، ويتكيفون مع المتغيرات، ويمنحون فرق العمل سرعة ومرونة غير مسبوقتين. فلنحتفِ بهذا النموذج الجديد من فرق العمل: فرق أكثر ذكاءً، وأسرع استجابة، وجاهزة لمواجهة تحديات المستقبل بثقة واقتدار. *نائب الرئيس الإقليمي لشركة كلاوديرا في المملكة العربية السعودية