الصيف يجعلني أقيّم كثيرًا من المدن، ليس فقط لأن أغلب زياراتي لها في هذا الفصل المكتظ بالبشر، بل لأنه موسم اختبار لقدرة المدينة على التحمل والحياة تحت الضغط، فهو يظهر أسوأ ما فيها.. عادة ما يثير الصيف في مخيلتي ذكريات كثيرة، عكس الشتاء، الذي لا أحفظ له ذاكرة محددة، ربما لأنني لم أعتد على رحلات البر إلا نادرا، وإن كانت بعض الذكريات المرتبطة بالدراسة في مدينة نيوكاسل الإنجليزية وبعض المدن التي سافرت إليها في الشتاء لا تزال عالقة في ذهني. دعوني أقول إن ذاكرتي ليست مرتبطة بحالة الطقس منفردة، بل هي ذاكرة معمارية بامتياز، أرى الطقس من خلال العمارة وأتأثر بالمكان في حالته المناخية، وهو يتعرى أمامي أحيانا عندما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف وتتحول الشوارع إلى اللون البرتقالي المُحمر، وهي حالة لا أراها في مدينتي، فقط عندما أزور المدن التي تحتفي بفصول السنة وتتلون بها. في الصيف تكتسي المدن، ليس كل المدن، مرة أخرى، تكون أشجارها كثيفة الخضرة وتتوارى العمارة خلف تلك الخضرة الداكنة، لكن المكان يكتسب حيوية مختلفة، الناس تحتفي بالطرقات، رغم حرارة الجو أحيانا. ومع ذلك، لم أعتد أن آخذ إجازة طويلة في الصيف، لكن يتاح لي أحيانا أن أسافر لبعض المدن من أجل العمل، يعني مُكرها أخاك لا بطل. منذ بداية صيف هذا العام أتيحت لي فرصة لزيارة ثلاث مدن هي إسطنبولوالقاهرةوباريس، على التوالي، ورغم ضيق الوقت نتيجة للارتباطات الكثيرة إلا أنني كنت ملتزما بمشاهداتي العمرانية في كل زيارة لي رغم أنني على علاقة وثيقة بهذه المدن الثلاث منذ فترة طويلة. إسطنبول، كما هي، "هبة البسفور"، لا تشعر بها دون هذا المضيق العبقري الذي جعل منها مدينة خالدة. كنت أقرأ قبل فترة كتاب للمعماري السويسري/ الفرنسي "ليكوربوزية" وهو عبارة عن تقارير صحفية، وكان مراسلا لأحد الصحف، في مطلع القرن العشرين. كانت تلك التقارير تصف إسطنبول في ذلك الوقت واستوقفني وصفه للقرن الذهبي، وهو عبارة عن لسان ممتد من المضيق ينحني على شكل "قرن" وتطل عليه الهضبة العظيمة التي تحتوي معالم "القسطنطينية" التاريخية وإسطنبول الإسلامية، تُظهر معالم "السليمانية" بوضوح، المسجد الذي صممه المعمار العبقري "سنان"، عن بعد كشاهد ملفت على التحول العظيم الذي شهدته هذه المدينة قبل أكثر من خمسة قرون. كل مرة أزور إسطنبول، أمرّ بهذه البحيرة المدهشة، وأحيانا استأجر مركب يلف بي في انحائها، دون هدف إلا من تأمل التاريخ وكيف كانت تعيش أيام ساكنة وهادئة، قبل أن يهاجمها العمران المعاصر ويأخذ منها هدوئها وسكينتها. لا يمكن أن تشعر بإسطنبول إلا بالقرب من البسفور، وكلما ابتعدت عن هذا الممر المائي العبقري تتوحش المدينة وتصبح كأي مدينة بلا هوية أو روح. هناك أمكنة تصنع ذاكرة المكان مهما تغير محتواه، وهذه هبة لا تتمتع بها كل المدن. القاهرة هي الأخرى "هبة النيل" ويبدو أن الممرات المائية لها سطوة عظيمة على الأمكنة، تختلف عن سطوة السواحل البحرية، فرغم أنها ممرات ضيقة مقارنة بالبحر الواسع إلا أنها "بصمة" لا يمكن محوها أو تغييرها، تجبر الذاكرة على التجدد، حتى لو أن المدينة تمر بفوضى عمرانية، كما هي القاهرة اليوم، التي صارت تبتعد عن النيل وتصنع فضاءاتها المنظمة بعيدا عن جوهر ذاكرتها الخلّاق، وإن كانت هناك محاولات دؤوبة في إعادة النظام لمركزها التاريخي. النيل، في القاهرة لا ينفك من توافد المراكب الصغيرة التي تقل السياح، تسمع صوت المرح والغناء المرتفع وسط الماء ليختلط بأصوات أبواق السيارات التي تملأ الشوارع لكي تبقي هذه المدينة حية طوال اليوم. لكن تظل قاهرة المًعز التاريخية هي محط اهتمامي الخاص، فلابد من التجوّل فيها كل مرة، ولا بد من اكتشاف أمر لم أنتبه له من قبل، مدينة متخمة بالتاريخ، وهذه المرة كانت "الخيامية" في الجزء الجنوبي من "الغورية" على امتداد شارع المًعز، هي محطتي في زيارتي القصيرة. في تلك المنطقة وفي الممر المسقوف يوجد فن قديم كامن في تلك الدكاكين الصغيرة، تظهر المفارش القماشية المطرزة والمركبة من قطع القماش الصغيرة تصنع لواحات فنية مبهرة. طالما شدتني هذه الحرفة لفترة طويلة ولم أقم بزيارة مقرها إلا في هذه الرحلة الخاطفة، رغم معرفتي بالمكان. لا أعلم إن كنت أستطيع أن أصف باريس بأنها "هبة السين" فهذا النهر الذي يخترق المدينة من جنوبها إلى وسطها ثم يعود مرة أخرى إلى الجنوب ليلتوي بعدها إلى الشمال خارج حدودها. لكن باريس التي نعرفها هي "مقاطعة نهر السين" التي خططها وبناها عمدة المقاطعة "هاوسمان" في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد كتبت عدة مقالات في هذه الصحيفة الغراء قارنت فيها بين القاهرةوباريس، كون القاهرة أرادت أن تتشبه بباريس في عهد الخديوي إسماعيل في ستينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، وساهم مساعدو "هوسمان" في تخطيط حي الإسماعيلية "وسط البلد" في القاهرة، لكن القاهرة لم تعزز من ذلك الإرث المدهش الذي بنته حتى منتصف القرن العشرين وبدأت تتراجع عنه. يصعب فهم مدينة باريس، فرغم زياراتي المتكررة لها بحكم العمل، إلا أنني لم أستطع فها ولم أقدر أن أخلق خارطتي الذهنية الخاصة بها عكس جميع المدن التي زرتها. ربما هذا ناتج عن التخطيط الإشعاعي الذي ابتكره "هوسمان" الذي يجعل الشارع يبدأ في مكان وينتهي إلى مكان آخر خلافا لما يتصوره الذهن. إنها مدينة يجب أن "تحفظها" غيبا لا أن تفهمها. لقد تعودت أن أتعرف على باريس كأجزاء لا ككل، وهذا لم يطوّر علاقتي بها كمكان يشغل الذاكرة حتى اليوم. الصيف يجعلني أقيّم كثيرًا من المدن، ليس فقط لأن أغلب زياراتي لها في هذا الفصل المكتظ بالبشر، بل لأنه موسم اختبار لقدرة المدينة على التحمل والحياة تحت الضغط، فهو يظهر أسوأ ما فيها، الذي قد لا اتنبه له في الفصول الأخرى. سأصارح القارئ بشيء حول مفهوم "السياحة"، بالنسبة لي: المدينة وعمارتها وأمكنتها هي السياحة الوحيدة التي أجد فيها متعة، وعندما انتقل إلى مكان "هادئ" وطبيعي، لا أجد المتعة إلا في البداية ولفترة محدودة، وسرعان ما أشعر بالملل. لا أعلم لماذا، فقد يحتاج الأمر إلى مزيد من البحث.