تقدّم في المقال السابق أثر «الشخصيّة القاعديّة» في توجيه المجتمعات والثقافات، من خلال نموذج الخطاب الثالث، وفق المجال التداولي الإسلاميّ، بحسب سعيد العلويّ. وأن دلالة «المروءة» حصيلة امتزاج بين الشقين العربيّ واليوناني، فصارت برنامجاً لا مجرد سمات. وهذا البرنامج يبدأ بمقام الدنيا في نظر المرء، فالمرء أو الفرد ليس مجرّد عنصر بل عالم انطوى فيه العالم الأكبر، وهو في منظومة تراتبيّة وجوديّة بتعالق مع محيطه، موصولاً بمن فوقه ومن دونه، أشبه بتراتبية المدينة اليونانيّة وتقسيم طبقاتها. فلم تعد الدنيا مجرّد حرث الآخرة، بل هي منظومة مركّبة، والفرد فيها عنصر في بنية علاقات بنيوية عميقة، يتحدد موقعه بحسب الطبائع والرُتب والاستعدادات، والتي تنتظم كلها من أجل غرض «الإصلاح العام» لهذا المجتمع، في تشكّله السياسيّ في المدينة أو الدولة. فالفضائل نحو «العدل» تتعدد صوره بحسب المرتبة، فعدل مع من دونه، وعدل مع من فوقه، وعدل مع نظيره وكفؤه، والعدل هنا بدلالته اليونانيّة «التوسّط» (يمكن الرجوع لكتاب «الأخلاق» لأرسطو، أو «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» لمسكويه؛ لفهم دلالة «الاعتدال» أو «العدل» أو «التوسّط» وجريان هذا المفهوم، والتراتبية الخُلقيّة، في القطاع الخلقيّ في الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة، تأثراً بهذا التقاطع بين الثقافتين العربيّة واليونانيّة في العقل العمليّ. إضافة لأهميّة كتاب عليزيعور «حوافز يونانية في العقل العمليّ اليونانيّ»، وتأثيره حتى في القطاع الفقهيّ من المعارف الإسلاميّة). فإن كان الماوردي مشدوداً في صورة العدل إلى السعادة في مجال المدينة (المدينة اليونانيّة)، بتأثير من المنظومة الخُلقيّة الإغريقيّة؛ فهناك صورة للعدل في الخطاب الأشعري مشدودة إلى عالم الباطن وسحره، مع الغزاليّ. وكلاهما في نهاية المطاف يجمعان التعلّق بالتخلّق في صورة «التدبير»، وفق فضاء الشخصية القاعديّة للعصر الكلاسيكيّ. ولا يكتفي المؤلّف باختزال بعض الفكر الأشعريّ الخُلقيّ في كتاب «أدب الدنيا والدين»، بل يمدّه حتى الفكر الأشعريّ السياسيّ، مع اختلاف تفاصيل الرؤية السياسية، لكنها في العموم تعتمد على الشخصية القاعديّة من الفضاء العربي-اليوناني في العصر الكلاسيكيّ، وأصول الكلام الأشعريّ وتفريعاته في أصول الفقه الأشعريّ، بأطر مجتمعة من هذا التشكيل وفق صيغة تعبير فقهيّة. ففي «الفصل الثامن: النصيحة والتدبير» تخصيص للاقتباس الإسلاميّ من الإرث اليوناني، من الرؤية الفلسفيّة السياسيّة وفق مفهوم «التدبير»، مع استحضار العقيدة الإسلاميّة، والفضاء العربيّ، وتقرير الطاعة والنصيحة لوليّ الأمر، فموقف الفقيه موقف المستشار الناصح. وقد انعكست رؤية الفقيه الأشعريّ المتكلّم الكاتب في السياسة على قراءته للتاريخ؛ تاريخ الأمم والشعوب، وترسيخ مبدأ «العادة» فيما جرت عليه أمور العالم، وهذه القراءة غرضها توظيف استخلاص ما جرت عليه عادة الأمم،ثم تقديمها للأمير في النوازل السياسيّة العاجلة، نحو: مطالبة الجند بمزيد امتيازات. غير أنه بعد هذا التقديم المميز للأثر التربوي ل»الشخصيّة القاعدية» عند توظيفه، لم يجر معه حتى منتهاه، بل صبّه في قالب بأداة أخرى، وهي أداة «المعرفة والقوّة»، الأداة شبه الشائعة في الدراسات المعاصرة، بحثاً عن القيم المحركة للمعرفة، والتي تؤول إلى السلطة (بمعنى القوة التدبيرية المحرّكة ضبطاً وتصميماً)، وهي من آثار ميشيل فوكو الممتدة على قطاع كبير من الدراسات التي تحاول دراسة التحولات التاريخية المعرفية للمجتمعات. ولعل هذا هو الذي قلل من القيمة العلميّة لكتابه، لأنه انطلق من «شخصية قاعدية» موجّهة تربوياً، ليؤول الأمر إلى تكوين بنية سلطويّة اجتماعيّة تعيد إنتاج العلوم بحسب الموجهات الخارجية، حزبية كانت أم عقدية، في تناقض بين الأداتين؛ فجمع بين أداتين «الشخصية القاعدية» و»القوة والمعرفة»؛ في حين الأولى كانت تربويّة تشوّفية، والثانية ليست قصدية بقدر ما هي إلزاميّة قهريّة إلى حد ما. فكيف يمكن حلّ هذا التناقض من إسقاط أداتين على حقل معرفيّ ضمن التراث؛ لتقديم صورة أقرب لواقعه؟