مع تزايد الاعتماد على الرقمنة في مختلف مجالات المعرفة، لم يكن علم التاريخ بمنأى عن هذا التحوّل. فقد دخلت الخوارزميات والأنظمة الذكية على خط التأريخ، لتعيد تنظيم المعلومات، وتحليل المصادر، وتسهيل الوصول إلى الروايات التاريخية. غير أن هذا التطور يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل تسهم الرقمنة في تحقيق حياد علمي أكثر دقة، أم أنها تُقصي العاطفة والتفسير الذاتي الذي لطالما شكّل لبّ الكتابة التاريخية؟ لم يكن التاريخ علمًا محايدًا بشكل مطلق في يوم من الأيام. فالمؤرخ لا يكتفي بجمع الحقائق بل يختار ويؤوّل ويكتب من موقعه الإنساني، محمولًا على خلفياته الفكرية، وثقافته، وظرفه الزمني. في المقابل، تأتي الرقمنة محمّلة بوعد الحياد والدقة والانضباط؛ إذ تُنظّم البيانات، وتربط الروايات، وتفرز المعلومات ضمن معايير ثابتة. لكن هذا الوعد الرقمي، وإن بدا جاذبًا، لا يخلو من مخاطرة: فهل يمكن حقًا أن ننقل التاريخ من دفء الحكاية إلى برودة البيانات دون أن نخسر شيئًا من روحه؟ التاريخ ليس معلومات مجردة، بل هو حكاية، فيه نبرة وسكوت وتلميح وانفعال، فيه العاطفة التي تمنح الرواية معناها وعمقها. وحين تتحول هذه الحكايات إلى ملفات رقمية، يصعب أن نحتفظ بكل ما هو محسوس وإنساني فيها. صحيح أن الرقمنة تنقذ الكثير من الروايات من الضياع، وتسهّل التحقق والمقارنة، لكنها في الوقت ذاته قد تجرّد السرد من البعد التأويلي الذي يُعد جوهر فعل المؤرخ. ولعلّنا نلحظ هذا التحدي في بعض المشاريع الرقمية الكبرى التي ظهرت في العقدين الأخيرين، مثل منصة سيما، ومركز دارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية، والمكتبة السعودية الرقمية. هذه المشاريع، رغم ثرائها التقني وقيمتها في تسهيل الوصول إلى المادة التاريخية، إلا أنها تثير تساؤلات عديدة حول مدى قدرتها على تقديم سرد متوازن لا يُقصي أصواتًا ولا يُسقط حساسيات ثقافية. إذ كثيرًا ما يُطرح السؤال: هل تسهم هذه المنصات في تحقيق عدالة سردية؟ أم أنها تكرّس نموذجًا جديدًا من "الانتقاء البرمجي" للتاريخ؟ النقد المعاصر لهذه الظاهرة يتوزع بين اتجاهين. الأول يرى أن المدرسة الرقمية تُبالغ في تهميش الذات المؤرخة والعاطفة الإنسانية، وتكاد تختزل التاريخ في أرقام وروابط. والثاني ينتقد المدرسة التقليدية التي تُغرق التاريخ في الذاتي والوجداني والانطباعي. غير أن الموقف المتزن لا يرفض أحدهما، بل يدعو إلى تكامل بين الحس الإنساني والدقة التقنية. فالعقل وحده لا يكفي، والعاطفة وحدها لا تكفي. إننا بحاجة إلى مؤرخ واعٍ، يُحسن استخدام الأدوات الرقمية، دون أن يسمح لها بأن تُقصيه أو تُحجّم رؤيته. إن الرقمنة، في جوهرها، أداة لا غاية. وهي حين تُستخدم بوعي، يمكن أن تُعزز من قدرة المؤرخ على فهم الماضي، وتُوسّع من أفقه، وتُعيد ربط الحكايات الصغيرة بالسياقات الكبرى. لكنها حين تُترك لتعمل وحدها، دون وعي نقدي، قد تُنتج سردًا خاليًا من الروح، وجامدًا، بل وربما مُضللًا. ختامًا، لنتذكر دائمًا أن الحياد في التاريخ لا يُصنع بالخوارزميات وحدها، بل بضمير المؤرخ، ووعيه، وقدرته على التمييز بين ما هو معلومة، وما هو معنى. وبين ما تقوله الوثيقة، وما تخفيه الذاكرة. أ. د. فتحية حسين عقاب