إذا ما اعتبرنا أن الاغتراب نقيض الأنس، وأن السعادة مرهونة بالأنس المعرفي، وأن الاغتراب مرهون بالكدر والاضطراب، فإن تقدم الشعوب والأمم هو بالأنس ومن الأنس.. تلك الدائرة المغلقة هي نواة الإبداع، كما أن تقدم الشعوب بذواتها هو ما يحقق الأنس والاستقرار بلا نزوح، واتباع الفضائل الفكرية والخلقية والعملية هو ما يبعث على الأنس.. كل ذلك عن طريق متعة المعرفة النافية للاغتراب.. لم يعد مصطلح النزوح يحتفظ بفهمه للمكان، وإنما اتخذ من الزمان إضافة لمفهومه في عصرنا الحالي؛ حيث أصبح النزوح الزماني هو سمة العصر جراء هذه الثورة التكنولوجية والمعرفية، فالزمن لم يعد هو الزمن، والمكان لم يعد هو المكان، مما جعل الفرد يتجول عبر الأزمنة والأمكنة في مكان وفي زمن خاطف متعدد الزوايا بحسب الأمكنة! ومما سبق وتدارسناه في موسوعتنا نقد النقد وهو نقد الفلسفات العابرة عبر الأزمنة المتلاحقة أسست لهذا النزوح الذي عززته الثورة التكنولوجية في مجتمع عربي لم يكن على قدر الجاهزية من الوعي بتأثير هذه الفلسفات أو تلك إذا ما أخرجناها من محيطها الأدبي إلى بنية المجتمع وكيفية التأثير والتأثر بها قسرا دون طواعية في تبعية مقيته بلا علم لسيكولوجية هذا المجتمع أو ذاك مما قد يسبب ثيمة الاغتراب. ولهذا نجد أن عملية النزوح هذه لدى المتلقي العربي إنما تعنى النزوح الى ما هو أفضل من محيطه الاجتماعي -إذا ما اعتبرناه متدينا بطبعه- فيصبح ذاتا حالمة وهائمة أو ساخطة نحو مجتمع أفضل. ومن هنا نجد ذلك التحرر غير التقليدي في وسائل الإعلام وتمرد على القيم الأخلاقية المجتمعية والأعراف والتقاليد إنما هو نتاج ما تحمله بعض الفلسفات في بذرتها من تأثير سيكولوجي على المجتمع العربي بأكمله. لكن المسرح لم تسدْه تلك النعرة نحو عالم ميتافيزيقي، لأنه في نهاية المطاف مسرح عربي يتسم فيه الصراع بالصراع الأفقي كما أسلفنا؛ ولهذا فإذا وجدنا نزعات نحو مسرح تفكيكي عربي فإننا نجد ذلك على مستوى عدم اتساق الجملة أو الحوار أو حتى تلك العزلة في شبكة العلاقات لكنه -أي الكاتب العربي- يظل يقظا لعدم تعدي ذلك البعد الميتافيزيقي، ومن هنا يكون تفكيكيا ناقصا؛ لأن التفكيكية تعتمد على الإبداع في غياب الوعى التام وإقصائها العقل جانبا لحظة الإبداع مما جعل ذلك الوعي والعقل في سمة الكلام لا في سمة الكتابة. فهي كما يقول ميشيل رايان: "إننا نجد دريدا في التعارض الذى يقيمه روسو بين الكلام والكتابة صيغة نموذجية من صيغ الميتافيزيقا إذ إن ما يحدد أسبقية الكلام نزعة مركزية تعمل بمقتضى اللوغوس وبمقتضى قيمة الحضور والحياة الواعية والقرب والتملك أي بمقتضى ما يكون خاصا وداخليا، بمقتضى ما يكون هو نفسه وليس آخر. ولا تتمتع الكتابة بأدنى امتياز بسبب أنها تمثل رحيلا عن الحضور والتملك، فالذات الحية أو اللوغوس غائب عن الحضور كتابة هي دائما علامة على المسافة أو الإزاحة والانفصال، بقدرة الكتابة أن تنتسب الى أي أحد فهي تضع نهاية للخصوصية أو التملك المتطابق مع نفسه". ومن هنا تأكد لنا فكرة هذا الصراع الفكري بين (فلسفة النزوح والمعرفة) لدى العربي؛ حيث نؤكد على عدم إتمام نص تفكيكي مسرحي بكل جوانب التفكيكية وذلك لطبيعة المسرح العربي وطبيعة الصراع فيه، كما أن النص المسرحي يقوم في بنائه على الفكر والرسالة، ومن هنا يندر استخدام هوامش أجندية في صياغة عرض مسرحي. إن اختلاف المخرج مع النص إشكالية أزلية سواء اختلف معه أو أتفق فهناك رؤى إخراجية تنتج لمسرح شكسبير أو البير كامي أو غيرهم حتى يومنا هذا وليس شريطة أن يتبنى المخرج فكر المؤلف، ولكن هذا لا يعني أن المؤلف قد مات حتى وإن أبدع من خلال اللاشعور، الا أن هناك بصمات فكرية يتسم بها كاتب عن آخر، فاللاوعي هو مخزن التاريخ حتى وإن بدت كلمات، ومن هنا تخرج بروح وبصمة هذا المؤلف مهما اختفى خلف الكلمات أو تعدد القراءات وهو ما لا يتفق مع رأى ميشيل رايان حين يقول: "مقدرة الكتابة أن تنسب الى أي أحد فهي تضع نهاية للخصوصية". كما أن "فوكو" يخضع العمل الابداعي لنوعين من الخضوع: "الخضوع لشخص آخر من خلال علاقات السيطرة والاعتماد والخضوع للهوية الذاتية من خلال العلاقة بالضمير ومعرفة النفس. فالمسرح العربي وتبعيته للفكر العربي ولهوية عربية ودينية تضخم من دور ذلك الحارس الأمين وتدعم له سمة الخضوع، ومن هنا يكون الضمير والدين ومعرفة النفس هي الحائل دون إنشاء ذلك الصراع العمودي الذي تتسم به التفكيكية، والذي نجده في المسرح العربي لمعالجات نصوص غربية مثل مسرحيات أرتو والبير كامي وبيكيت وغيرهم، وبالرغم من وجود نصوص عربية مسرحية تحمل علامات الاغتراب من حيث عدم اكتمال الشخصية، أو الجملة الناقصة، أو عدم اتساق الحوار، إلا أننا نجدها في النهاية تحمل فكرا للمؤلف ورؤية خاصة به دون التعدي للحدود الميتافيزيقية، فلم يعد النص لديهم أجندة كلمات متناثرة بقدر ما يحوي بداخله من فكر متعقل، كما أن الناقد أو طالب اللغة إذا لجأ الى إطاره المرجعي في تفسير هذه النصوص أو تلك فذلك تعد رؤيته من خلال سلطته القائمة على النص. إن هذه الفلسفات التي نخرجها من محتواها الأدبي إلى محيطها الاجتماعي جعلت كل البنى الاجتماعية في حالة اضطراب فكري لم ينضج بعد لعدم جاهزيته لاستقبال مثل هذه الفلسفات، مما يحدث ذلك الصراع الفكري الذي نحياه الآن لغلبة ثيمة الاغتراب وتعدد فكرة النزوح؛ فإذا ما اعتبرنا أن الاغتراب نقيض الأنس، وأن السعادة مرهونة بالأنس المعرفي، وأن الاغتراب مرهون بالكدر والاضطراب، فإن تقدم الشعوب والأمم هو بالأنس ومن الأنس.. تلك الدائرة المغلقة هي نواة الإبداع، كما أن تقدم الشعوب بذواتها هو ما يحقق الأنس والاستقرار بلا نزوح، واتباع الفضائل الفكرية والخلقية والعملية هو ما يبعث على الأنس. كل ذلك عن طريق متعة المعرفة النافية للاغتراب. والمعرفة لا تقتصر على ما أدرجناه من رؤى نظرية نقدية وإنما المعرفة بمعناها الشامل بنظرياته العلمية أيضاً، والتي تحقق الأنس، ومن ثم الإبداع والاختراع والتقدم الثقافي والصناعي. إن ثيمة الاغتراب هي ما تعمل على التراجع الفكري في شتى المجالات، ولذلك ف"توماس فريدمان" استبعد العالم العربي من العالم المسطح لتقهقره عن الصف العالمي الصناعي والثقافي، وبذلك ينكأ جرح النزوح والاغتراب.