الحديث مع الآخرين وعنهم أمر حتمي وهي الفطرة وطبيعة الإنسان البشرية، ولاشك أن الحديث يشرح ما يفيض به الوعاء بمعنى أن هدف الحديث هو الأساس التي تستند إليه النية إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذه الموازين هي المؤشر للكسب أو الخسارة كسب النفس أو خسارتها، وهذا أخطر ما في الأمر حيث إنه سيكتب في سجلك قال المولى تبارك وتعالى: «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد». ولا شك أنّ ذكر المرء أخاه بما يكره من أسوأ الأمور ومدعاة لفقدانه الحسنات لتضاف إلى من اغتابه فضلاً عن أن الغيبة هي من ألوان الشر ومن الأسباب الجالبة للقلق، فعندما يخلو الإنسان إلى نفسه فإن الصراع يعتمل في جوارحه ويسهم في تآكل روحه المعنوية وبالتالي فإن المناخ مهيأ لتتسلل الازدواجية في غفلة منه إلى قلبه حيث يعتقد شيئاً ويأتي بشيء يخالفه، هذه الهزات الارتدادية والتي يحدثها زلزال الضمير الذي لا يكل ولا يمل هي المؤشر فهو نعم الصاحب والمعين في السراء والضراء، بيد أن تجاهله من شأنه أن يسهم في تراكم الترسبات السلبية العدائية ورسوخها في الأذهان حينما يكون الاستقرار هدفاً مكشوفاً وتتآكل مقومات أسوار الحماية طبقاً لنزعة عدائية المنشأ لم يكن لها أن تستقر وتجد موطأ قدم لو إن ذكر الله سبق التصور، من هنا ينشأ التوتر والقلق عطفاً على هذا الانفصام لأن في داخله بذرة طيبة ترفض الانصياع إلى ما يخالف عقله وضميره، الحرص على هذه البذرة الطيبة وتنميتها وسقياها إنما يكون بالابتعاد عما يغضب الخالق لتنمو وتظل باسقة في شموخ لا يقبل التنازل وكبرياء لا يقبل الانحناء، وعدم الإصغاء إلى إبليس اللعين الذي يريد تدمير الناس وجرهم إلى المهالك في الدنيا والآخرة، وعلى سبيل المثال في العلاقات وتحديداً بين الزملاء والزميلات في العمل، وفي هذا المحيط حدث ولا حرج فمن تصيد للأخطاء إلى تنافس لا يمت للشرف بصلة بل تغلفه الوشاية والنيل من بعضهم بعضاً، وكل هذا يتم وبكل أسف من تحت لتحت أي أن الابتسامات تعلو الوجوه، فما أن يدير أحدهم ظهره ويكون عرض الأكتاف آخر ما ترمقه أعينهم حتى يكون هذا الوقت المستقطع مساحة رحبة لاجتراح السيئات ناهيك عن أساليب التقزيم والاستنقاص، هذه الفيروسات التي تنتشر في محيط العمل يتباين تأثيرها شأنها بذلك شأن فيروسات الإنفلونزا فمنها ما هو قاتل ومنها ما يمر مرور الكرام وعطسة واحدة كفيلة بإخراج هذا الدخيل من الجسم، غير أن الخطورة تكمن في الفيروسات الخطيرة التي تدمي القلب والجسد وتسمم البيئة حينما تحمل التجريح أو التأثير سلباً وهي ولله الحمد قليلة نسبياً إذا ما قسنا على ذلك الأحاديث على سبيل المزاح والتسلية أو بالمعنى الدارج الطقطقة والتي لا يلحقها مضرة، وربما تقع أخطاء صغيرة وغير مقصودة لوضع طبيعي ولا يستلزم حشد هذا الكم من رد الفعل، في حين أن البعض لا يمرر بعض الغلطات البسيطة وهو ينوء بالعشرات منها من دون أن تلفت انتباهه، وتكمن الازدواجية هنا من خلال تعامله مع أجهزة التواصل المختلفة وعينه طبعاً على الحذف لتظهر الدقة في رسائله أو بثه عبر الهواء أو الغبار سيان، لذا فإنه لا يلبث أن يمارس الحذف تلو الحذف، حتى ولو كان حرف جر وليته يجره ليجيب عن سر تصيده خطأ زميله حينما عمل من الحبة قبة، فهو يحذف من جهة ويثبت من جهة تمهيداً للشوت والكرة حتماً ستجدها في المدرجات وقديماً قيل «جبها معك» تعبيراً عن الرعونة في التهديف. إذاً نحن أمام شخصية تعيش في كنف ازدواجية مؤذية، وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني، إن من أشد الأمور قسوة على الإنسان وأكثرها إيلاماً حينما يدفع ثمناً لخطأ لم يرتكبه نتيجة وشاية مغرضة بل إن مَن نقل إليك هذا الكلام لن يلبث أن تكون أنت محطته المقبلة، بمجرد أن تدير له ظهرك وهكذا دواليك، ولا تكمن المشكلة في طبيعة العمل من حيث إدراك الظلم والاعتداء، بل إن الجميع مؤمنون بالمبادئ والقيم الدالة على الخير واجتناب الشر، إلا أن الغفلة وقانا الله وإياكم شرورها لا تلبث وفي خلال ثوانٍ معدودة أن تزين الإثم وتسحب المغفل إلى حيث الشكوك المؤذية والمآرب المخزية، المبدأ أشبه بلوحة تشكيلية رائعة الجمال بخطوطها الجذابة وتناسق ألوانها، بيد أنك لو سكبت نقطة حبر أو علبة الحبر بكاملها، فإن النتيجة واحدة وهو غياب الروح والمعنى، حيث إن نقطة الحبر ستشوه المنظر بأكمله شأنها بذلك شأن سكب العلبة بأكملها، من هنا تبرز اللامبالاة التي تتيح المساحات الرحبة لاجترار الأخطاء تلو الأخطاء، جاء رجل إلى عمر بن عبيد وقال له إني أرحمك مما يقول الناس فيك فقال: أسمعتني أقول فيهم شيئاً قال: لا قال إياهم فارحم، تأملوا الرقي وسمو النفس وكيف كان القياس الدقيق لمعيار الكسب والخسارة، على حين أن الاستشعار مرتبط بالإحساس والإحساس بحاجة دائمة إلى الحرص العناية والتغذية والتنشيط، والتذكير والمتابعة وما لم يتم صيانة الإحساس على الوجه الأمثل، فإن الشعور بقيمة الصواب والخطأ ستتلاشى ومن ثم فإن تبلد الحس سيطغي على الشعور وبالتالي فإن فساد اللوحة الجميلة هي النتيجة الحتمية، وفساد اللوحة يعني فساد العمل ومآلات هذا الفساد تؤدي ولا ريب إلى الخسارة الفادحة، فما أجمل أن يتحلى المرء بالإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيء قدير.