الحج شعيرة تتطلب الخبرة والإحسان لإدارتها وليس للحظ، ومن أعظم أركان الإسلام تهفو إليها أفئدة المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. ولأنها عبادة جامعة للقلوب والأجساد، يؤديها الملايين في وقتٍ واحد ومكانٍ واحد، فإن إدارتها لا يمكن أن تُترك للارتجال أو تُعتمد فيها العشوائية، بل على العكس، إدارة الحج تُعد من أعقد المهام اللوجستية والإدارية في العالم، إذ تتطلب قدرة استثنائية على تنظيم الحشود المليونية، وضمان سلامتها، وتوفير البنية التحتية، والخدمات الصحية، والأمنية، والغذائية، والنقل، والإرشاد الديني، وغير ذلك من منظومة متكاملة تُدار بدقة متناهية. وهو ما نجحت فيه المملكة العربية السعودية باقتدار، مستندة إلى عقودٍ من الخبرة المتراكمة، والاستثمار المستمر في تطوير منظومة الحج، من خلال توظيف أحدث التقنيات، وتدريب الكوادر البشرية، وتوسيع المشروعات العملاقة في المشاعر المقدسة، وفي مقدمتها التوسعات التاريخية للمسجد الحرام، ومشاريع النقل، والمظلات، والمنشآت الصحية، ومراكز التحكم الذكية. لقد أثبتت المملكة عامًا بعد عام أن خدمة ضيوف الرحمن ليست مجرد مسؤولية، بل شرف وسيادة، تؤديه بكفاءة تنال بها احترام العالم، وتحقق به تطلعات القيادة السعودية الرشيدة التي جعلت من خدمة الحجاج أولوية وطنية عليا. وقد كانت جهود المملكة هذا العام نموذجًا حيًّا في التميز، بدءًا من الاستعدادات الاستباقية، مرورًا بتنظيم قدوم الحجاج، وضمان سلامتهم، وتسهيل أدائهم لمناسكهم، ووصولًا إلى تطبيق أعلى المعايير الصحية والأمنية والتقنية. والمبادرات النوعية، التي كان من أبرزها توفير خدمات الإنترنت مجانًا لملايين الحجاج، بهدف تمكينهم من التواصل مع ذويهم، والوصول إلى المعلومات والخدمات الإرشادية بكل يسر وسهولة. وتأتي هذه الخطوة امتدادًا لرؤية المملكة في تسخير التقنية لخدمة الحجاج، وتعزيز تجربتهم الإيمانية عبر أدوات ذكية وميسرة ، هذا التمكين الرقمي لم يكن مجرد ترف تقني، بل رافقه تطبيق واسع لحلول الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات الترجمة الفورية، وأنظمة الإرشاد المكاني، ما ساهم في رفع جودة الخدمات وتعزيز كفاءة إدارة الحشود بشكل غير مسبوق. هذا عدا عن المنظومة الطبية الشاملة لحماية ضيوف الرحمن فقد حرصت المملكة العربية السعودية، ضمن خطتها الشاملة لموسم حج هذا العام، على تعزيز المنظومة الصحية وتوسيع نطاق الرعاية الطبية لضمان سلامة ضيوف الرحمن واستجابتهم لأي طارئ صحي بأعلى درجات الكفاءة. فقد تمت توسعة المستشفيات والمراكز الصحية في مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة والمدينة المنورة، وتجهيزها بأحدث الأجهزة والمعدات، بما في ذلك غرف العناية المركزة، وأقسام الطوارئ، والعيادات التخصصية، ووحدات الطب الوقائي. وشملت هذه التوسعة: * تشغيل 25 مستشفى و156 مركزًا صحيًا موزعة بين مكة، منى، عرفات، مزدلفة، والمدينة المنورة. * تجهيز أكثر من 5,000 سرير، منها قرابة 1,300 سرير عناية مركزة، وأكثر من 700 سرير طوارئ. * تزويد المرافق الصحية بأحدث أنظمة الإنذار المبكر، والتحليل المختبري السريع، وأجهزة الأشعة والتنفس الاصطناعي. وعلى مستوى الكوادر، تم نشر أكثر من 32,000 كادر طبي وفني، ما بين أطباء، ممرضين، مسعفين، وصيادلة، تم تدريبهم مسبقًا على التعامل مع ظروف الحج الخاصة، كضربات الشمس، الإرهاق الحراري، الأمراض المعدية، والحالات القلبية المفاجئة. كما وفّرت الوزارة خدمات الطب الوقائي والميداني، عبر فرق متنقلة تقوم بفحص الحجاج وتقديم اللقاحات والعلاجات الأولية. والخدمات الإسعافية عالية التجهيز عبر أسطول من سيارات الإسعاف الميدانية، وطائرات الإخلاء الطبي، التي وفرت تدخلات سريعة في المواقع الحرجة. والعيادات الذكية الموزعة في المشاعر، والتي تقدم استشارات طبية فورية باستخدام تقنية الاتصال المرئي مع أطباء متخصصين. وقد ساهمت هذه الإجراءات، إلى جانب التوعية الصحية، في الحد من انتشار الأمراض، وتقليل نسب التنويم، وضمان تقديم رعاية متقدمة في الزمن الحقيقي. إن ما قامت به المملكة هذا العام لم يكن مجرد استجابة صحية تقليدية، بل منظومة متكاملة من الرعاية الوقائية والعلاجية والإسعافية، مدعومة بتقنيات حديثة وخطط طوارئ محكمة، جعلت من صحة الحاج أولوية قصوى لا تقبل التهاون. المملكة لا تُدير الحج فحسب، بل تُبدع في تقديمه كأنموذج عالمي فريد في إدارة الحشود البشرية الكبرى، يجمع بين التنظيم والرحمة، بين الانضباط والتيسير، ويعكس صورة الإسلام الحقيقية في أبهى مظاهرها. فالحج ركن، وخدمته شرف، وإدارته علم، والمملكة في كل موسم تثبت أنها الأجدر والأكفأ والأكثر إخلاصًا لخدمة ضيوف الرحمن. وقد أشرف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بنفسه على سير خطط الحج ومتابعة تفاصيلها الدقيقة، في رسالة واضحة تعكس حجم العناية بشؤون الحجاج، وحرص القيادة على توفير أقصى درجات الراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن. هذا الإشراف المباشر يعكس رؤية وتوجه القيادة التي ترتكز على العمل الميداني، والاقتراب من تفاصيل التنفيذ، فسمو ولي العهد لا يكتفي بالتوجيه من بعيد، بل ينزل إلى الميدان، ويقود بنفسه، ويُجسّد بذلك روح القيادة الحقيقية في خدمة الدين والوطن وضيوف الرحمن، اعتاد قلمي في صحيفة «الرياض» على الاختصار بالمقالات والكلمات، لكن في شعيرة الحج لا يمكن أن تختصر جهود وطني وقيادتنا الرشيدة وجميع الموجودين في الميدان من أبناء وبنات الوطن، سيكون إجحافاً بحقهم أن أختصر الجهود، لذا أهنئ قيادتنا الرشيدة بنجاح موسم الحج هذا العام بفضل الله ثم بتوجيهاتهم بمستوى الكفاءة العالية والتنظيم المتقن، شاكرين لجميع القطاعات الأمنية والصحية والتنظيمية ولكل من ساهم في تقديم هذه الصورة المشرفة للمملكة أمام العالم، قيادة وشعباً.