انطلاقاً من شهادة نسرين عبدالله، وهي زوجة سابقة لأحد قيادات تنظيم القاعدة، في بودكاست تابع لأحد القنوات الإخبارية، تفتح نافذة مؤلمة على عالم نادراً ما يُسلط عليه الضوء الكافي؛ الكلفة الإنسانية الباهظة للتطرف الديني والأفكار الجهادية على النساء والأطفال، ليس فقط أثناء الصراع، بل كإرث ثقيل يلاحقهم لسنوات، بل لعقود. تقدم شهادة نسرين، مثل شهادات نساء أخريات خضن تجارب مشابهة، نموذجاً صارخاً للتأثير الفوري والتأسيسي للتشدد، التي تبدأ باستهداف النساء عبر خطاب ديني متطرف يعد ب"الجنة" و"الشهادة" و"تحقيق الذات" في خدمة "الدين". ويتم استغلال المشاعر الدينية العميقة أو البحث عن الهوية أو حتى الوعود الرومانسية ب "البطل المجاهد". وهذا الاستقطاب يقطع المرأة عن عائلتها ومجتمعها السابق، ويضعها في فقاعة أيديولوجية مغلقة. داخل التنظيمات المتطرفة، تعيش النساء حياة محكومة بالخوف والرقابة الصارمة، حيث تصف نسرين أجواءً من الشك الدائم، والانتقال المستمر، والخوف من الغارات أو من غضب القادة، حياتهن مرتبطة بمصير أزواجهن، ما يجعلهن عرضة للتشرد الفجائي أو الترمل أو الأسر في أي لحظة. وتشير في شهادتها بأنهن يعشن في ظروف معيشية قاسية، في مناطق نزاع أو مخيمات، مع نقص حاد في الغذاء والدواء والرعاية الصحية الأساسية، تحت مبرر "الزهد" و"تحمل المشاق في سبيل الله"، ويشهدن بشكل مباشر أو غير مباشر أعمال عنف مروعة، ما يسبب صدمات نفسية عميقة (PTSD)، قلقاً، اكتئاباً، وقد يصل إلى انهيار نفسي تام. وتعيش الأمهات في كابوس دائم على حياة أطفالهن وسط العنف. الأطفال هم الضحايا الأكثر هشاشة والأقل قدرة على الفهم أو المقاومة، حيث يُحرمون من أبسط حقوق الطفولة، وينشؤون في بيئة حيث العنف هو اللغة السائدة، والموت حاضر في كل لحظة. ويتم تشكيل هويتهم منذ نعومة أظفارهم على كراهية الآخر، وتمجيد العنف والموت باسم "الجهاد". المراهقون، وربما حتى الأصغر سناً، يتم تجنيدهم قسراً أو "طوعياً" بعد غسل دماغ مكثف ليكونوا مقاتلين أو انتحاريين مستقبليين، ومشاهد العنف والموت تسبب صدمات نفسية مدمرة، ويربطون العالم الخارجي بالخطر والموت، ويعانون من أزمة هوية حادة، لا يعرفون وطناً، وجنسيتهم منقوصة أو غير معترف بها، وماضيهم مرتبط ب "إرهاب"، فهذا يخلق جيلاً ضائعاً، غاضباً، وعرضة للاستقطاب مجدداً. حتى بعد الخروج من براثن التنظيم، سواء بالهروب أو بموت الزوج أو بسقوط التنظيم، تبدأ معاناة جديدة طويلة الأمد؛ حيث تعاني النساء وأطفالهن من وصمة عار اجتماعية هائلة. وصعوبة هائلة في الاندماج في مجتمعات جديدة. ويعانين من الصراع النفسي وإعادة البناء، والتخلص من الأفكار المتطرفة المزروعة عميقاً يتطلب جهداً كبيراً، والصدمات الماضية تطفو على السطح، والشعور بالذنب (حتى لو كن ضحايا)، والخوف على مستقبل الأطفال، والقلق المستمر. يحتاج الأطفال إلى إعادة تأهيل نفسي مكثف لمسح آثار العنف وغسيل الدماغ، وإلحاقهم بالتعليم النظامي يمثل تحدياً كبيراً بسبب فجواتهم التعليمية وصدماتهم. والخطر الأكبر هو أن هذا الجيل من الأطفال المهمشين والمحملين بالصدمات والغضب والهوية المشوهة، قد يصبح وقوداً للصراعات المستقبلية أو عرضة للاستقطاب من قبل جماعات متطرفة جديدة، مستغلة معاناتهم وحاجتهم للانتماء والانتقام. تواجه النساء عبئاً هائلاً في تربية أطفالهن وحدهن، يحملن جراحهن وجراح أطفالهن، ومهمة إبعاد أطفالهن عن شبح الماضي المتطرف مهمة يومية شاقة. شهادة نسرين عبدالله ليست مجرد قصة فردية؛ إنها صرخة مدوية تكشف الوجه الإنساني المنسي للإرهاب، حيث النساء والأطفال ليسوا مجرد "رفيقات" أو "أتباع"، بل هم الضحايا الأساسيون والرئيسيون لأيديولوجيات القتل والتدمير، وندوب التشدد لا تلتئم بسهولة، فهي تترك تشوهات عميقة في النسيج النفسي والاجتماعي للأفراد والمجتمعات لسنوات قادمة. والاستماع لنساء مثل نسرين ليس فضولاً إعلامياً، بل هو واجب إنساني وأمني، وفهم معاناتهم وآليات استغلالهم هو مفتاح أساسي لمنع استقطاب ضحايا جدد، وكسر حلقة العنف المتجددة، وبناء مستقبل يكون فيه البيت ملاذاً آمناً، لا ساحة حرب، وإهمال ندوب النساء والأطفال اليوم هو تهديد حقيقي لسلامة واستقرار المجتمعات غداً، فالمستقبل يبدأ بمد يد العون للذين دفعوا الثمن الأغلى.