يعتبر العنف الزوجي آفة كبرى تطاول كل بلدان العالم بمختلف أوساطها وطبقاتها الاجتماعية. وهناك ميل إلى الاعتقاد بأنه حكر على المجتمعات الفقيرة والطبقة العاملة البسيطة، وهو بالتالي آفة العالم الثالث والدول في طور النمو. لكننا إذا نظرنا جيداً إلى حقيقة هذه الظاهرة، نجدها تضرب عميقاً في مجتمعات العالم المتحضر. فهي موجودة في أميركا وأوروبا، أي في البلدان الغنية والمتطورة، وتعاني منها الطبقة الثرية، كما الفقيرة، وبحدة أكبر، لكن هناك أمرا واحدا يخفف من حدة هذه الظاهرة بين بلد وآخر يكمن في طرق المعالجة، القانونية منها أو المساعدات المادية والنفسية لضحايا هذا العنف. لا بد من حدث ما، تراجيدي على الأغلب موت الممثلة ماري ترنتينيان في فرنسا على يد من تحب، وحرق رجل اسباني لزوجته في اسبانيا كي تخرج ملفات الخجل الاجتماعي إلى العلن، فالموت وحده يعطي الحق لعدد أرقام الضحايا بالهروب من أدراج المحاكم، فإذا بها مخيفة، تماماً كطريقة موت النساء من الضرب المبرح، وهناك أكثر من مليون ونصف مليون امرأة تتعرض سنوياً للعنف الزوجي. صحيح أن المأساة تفتح عيون الناس وذاكرتهم على الحقائق المخجلة، لكن العنف الزوجي موجود منذ أن كان العالم، وهو ليس حدثاً جديداً من نوعه، بل هو من المحرمات التي تستر عليها كل المجتمعات، لأنها تخجل من الاعتراف بها. ولم يكن يوجد قانون ما، في القديم، حتى في البلاد المتحضرة، يمنع فعلاً العنف الزوجي بشكل خاص ولا العنف العادي. كان المجتمع يتفهم ويتسامح مع العنف بين الأزواج حتى سنوات قليلة. وقد تكون كندا أول دولة جعلت من العنف الزوجي سبباً للطلاق في أواخر الستينات 1968، أما فرنسا فلم تسمح بالقيام باحصاء اجتماعي عن العنف الذي تواجهه النساء إلا في عام 1997، ولم يصدر البرلمان الاسباني قانوناً يقضي بحماية النساء ضحايا العنف الزوجي إلا عام 1998 وبعدما توفيت زوجة شابة حرقاً على يد زوجها الذي تركته بسبب العنف. كيف نحدد العنف، هذه الآفة التي تحطم معنوياً وتقتل وأحياناً يوجهه صاحبه ضد نفسه، وهو على أنواع، فمنه العنف الجسدي والكلامي والنفسي - المعنوي والجنسي. من صمت البيوت إلى الصفحات الأولى للجرائد، أصبح العنف الزوجي حقيقة معترفاً بها من قبل النساء أولاً، ثم من المجتمع والإعلام والعاملين في القضايا الاجتماعية والسلطات وتحول إلى مشكلة عالمية يحاول جسدياً؟ بشكل عام، من الصعب تحديد العنف، لأنه شعور مقلق ومدمر معاً، ولأننا جميعاً نحمله داخلنا ويظهر في تصرف ما أو كلام ما قد نعتبره طبيعياً، لكنه ليس علماء النفس والاجتماع ايجاد حلول ملائمة لها. والعنف الزوجي عبارة عن استغلال عاطفي، نفسي، معنوي، جسدي أو جنسي من قبل فرد في علاقته الحميمة مع الآخر، بهدف السيطرة عليه وتحويله رهينة لرغباته. ويتخذ العنف الزوجي، حسب علماء النفس، اشكالاً عدة كالتهديد وعزل الشريك وإبعاده عن بيئته وأصدقائه وتوجيه الكلام اللاذع والمهين له، واتباع العذاب الجسدي والاستغلال الجنسي، وهذا النوع من العنف تتعرض له النساء في أي مكان من العالم، مع العلم أن هناك عدداً ضئيلاً من الرجال، كما تؤكد الاحصاءات، يتعرضون لعنف لا يقتل، لكنهم يعانون منه منذ أيام الطفولة والمراهقة. ليس من شك في أن العنف الجسدي مؤلم، لكن هناك عنفاً قد يكون أكثر ايلاماً لتحطيم إنسان ووضعه في حال رعب مستمرة، خصوصاً عندما يكون مدروساً ويعتمد على التهديد المعنوي والضرب الجسدي غير الظاهر للعيان، لأن الزوج هنا يعرف أين يضرب وكيف، بحيث يخبئ عنفه عن عيون الآخرين، كأطفاله ومجتمعه. ونتساءل لماذا لا تترك المرأة الزوج العنيف وتبقى معه على رغم معاناتها؟ في الواقع، أن السبب الأول يعود إلى التهديد المعنوي والنفسي، بحيث تصبح الزوجة رهينة الخوف وتأنيب الضمير أيضاً في حال وجود أطفال. فهي لا تريد تحطيم العائلة وترك الأولاد تحت رحمة رجل تدرك جيداً مدى عنفه، ثم هي تخشى العار، لأن المجتمع غالباً لا يرحم ولا يصدق أقوال المرأة، فهي ظاهرياً في أحسن حال ولا ضرورة لترك زوج وعائلة وتهديم منزل من أجل "ضربة كف". وهناك أيضاً الارتباط المادي والخوف من المستقبل عند المرأة التي لا تعمل، فهي ضعيفة ولا تثق بنفسها ولا بمؤهلاتها حتى لو ملكت الشهادات العالية، وأخيراً أن أكثر ما تخشاه المرأة هو عدم استطاعتها التخلص من زوجها بمجرد تركها له، فهي تخاف من انتقامه، كما حدث مع الكثيرات، لذلك تأمل دائماً بتحسّن العلاقة الزوجية، فتعطي زوجها فرصة جديدة. إن الخوف من الزوج ومن المجهول ومن كلام الناس هو الذي يدمّر المرأة التي تتعرض لعنف يومي. كلام المجتمع الذي يقول إن المرأة التي تعاني من العنف لا بد أن تكون السبب، لا شك أنها افتعلت حال العنف من خلال استفزازها لزوجها وعدم تلبية رغباته الشرعية والمشروعة، فهي إذن، تستحق العنف الذي تتعرض له. والواقع أن ما من إنسان يستحق العنف ولا يرغبه، فالرجل العنيف يجعل من كل أمر بسيط سبباً موجهاً ضده، لازعاجه وتنكيد عيشه الملح قليل في الطعام، المذياع العالي الصوت أو المنخفض الصوت…. إن صاحب العنف سيجد في كل قول أو حركة تحدياً له ولسلطته، وهو بذلك يبقي مسؤوليته للعنف الذي يمارسه. يحاول بعضهم اعطاء العنف الزوجي صفة المرض والمعاناة النفسية والذهنية، لكن الاحصاءات تدل على أن العنف الزوجي منتشر لدى مختلف الطبقات الاجتماعية ولا يمكن اعتباره مرضاً ما، لأن أكثر الرجال الذين يمارسون العنف داخل البيت ليسوا من الأشخاص الذين يضربون مثلاً زملاءهم في العمل أو رب عملهم لمجرد ثورة غضب، بل هم أفراد عاديون، وعندما يضربون نساءهم فإنما يعرفون كيف يوجهون ضرباتهم بحيث لا يرى آثارها أحد. إذن فالرجل العنيف الذي يعاني من مرض نفسي أو عقلي، لا يستطيع السيطرة على عنفه داخل البيت أو خارجه، أما قضية تعاطي الكحول التي تدفع أحياناً إلى حالات عنف قد لا يستطيع الفرد السيطرة عليها، فهي ربما تساهم في بعض العنف لا كله، وهي ليست السبب الرئيسي لممارسة العنف، بل يعود السبب إلى رغبة مرتكب العنف في السيطرة على الآخر وضبط تحركاته، بل دورة حياته بكاملها. وهذا النوع من الرجال يستغل الكحول ليتهرب من مسؤوليته في عملية العنف قانون السوط والإبهام لا شيء يكسر قاعدة المحرمات والمحظورات الاجتماعية سوى قساوة الموت. ولا شيء يسمح للأرقام أن تأخذ أبعاداً قانونية وأحياناً سياسية، خصوصاً في الغرب، إلاّ عندما يتحول الرقم إلى وجه واسم لإنسان شهير. هذا ما حدث في فرنسا مع الموت المجاني للممثلة السينمائية والمسرحية ماري ترنتينيان، المعروفة بأنها امرأة ملتزمة بقضايا المرأة وحقوق الإنسان آخرها تنديدها بقوة بالحرب على العراق. والعنف الزوجي أمر محرّم نخجل من اظهاره علناً، والأغرب من هذا، خجل المجتمع بالضحية وتحميلها مسؤولية ما حدث، حتى في حال موتها، فهي دائماً، بنظره، حواء التي عكرّت صفو جنة آدم… وما زالت تعكرها. نعرف جميعاً أن قضية العنف، في العلاقات العائلية والزوجية، قديمة منذ كانت الخليقة، كما نعرف جميعاً أن الأعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية تغض النظر عنها وتواجهها باخفاء السر وسرد بعض الحِكَم القديمة وتفسير بعض التعاليم الأخلاقية الداعية إلى التسامح والطاعة والمحبة بين الزوجين، هذا ما يحدث في بلاد العالم كله. أما في بلادنا العربية، فالعنف الزوجي موجود، وبكل أشكاله، نجده حاضراً غائباً، يختبئ في عباءة التقاليد إذا كان جسدياً وفي رحاب القوانين إذا كان نفسياً وحقوقياً، وأخيراً في همسات العيب والخجل والعار إذا كان عنفاً كلامياً وأخلاقياً يحطم الإنسانية في الإنسان. هذا العنف يظهر في الأمثال: اقطع رأس الهر من البداية، لمن يتزوج حديثاً، والعصا لمن عصا وغيرهما. وعلى رغم ذلك، فإن بلادنا العربية تسامح. نترك بلاد الزمن الحاضر ونعود إلى القديم… إلى انكلترا العتيقة لنختار فقرة من قانون انكليزي يعود تاريخه إلى عام 1767 ويدعى "قانون الإبهام" Rule of Thumb، ويسمح هذا القانون للزوج بعقاب زوجته وضربها بالسوط شرط ألا يتعدى عرض السوط عرض اصبع الإبهام لدى الزوج. لكن القانون الانكليزي نسي تحديد طول السوط، إذ كان هم المشّرع فقط ايقاف موت النساء نتيجة الضرب بالسوط العريض الخاص بجلْد الرقيق أو بالأحرى التفريق بين عبودية الزوجات وعبودية الزنوج.