يُعد الفنان سمير الدهام Sameer Aldaham أحد أبرز أعمدة الفن التشكيلي السعودي، وهو من القلائل الذين تركوا بصمة مميزة ومتفردة في المشهد الفني المحلي والعربي. يمتد حضور الدهام من سبعينيات القرن العشرين حتى العقد الثالث من الألفية الجديدة، وقد اتسمت أعماله بسمات خاصة تعكس عمق الرؤية، وغزارة التجربة، والتزامًا بالفن كأداة للوعي والهوية. سنتناول تجربته التشكيلية هنا من عدة زوايا: أولاً: ملامح الأسلوب الفني لسمير الدهام، تتمتع أعمال الدهام بروح سردية، حيث لا تُرسم اللوحات عنده لمجرد الجمال، بل لرواية قصة أو تجسيد موقف أو تمرير رسالة، وهو ما يجعل من تجربته نموذجًا للتعبيرية المتجذّرة في الواقع والمُحلّقة في الخيال. وقد اتسمت لوحاته بعدة خصائص تميّزت بها عن أقرانه: 1. الرمزية والتراث أكثر ما يلفت النظر في أعمال الدهام هو توظيفه للرموز التراثية النجدية والخليجية: الأبواب الخشبية، الأقواس، المباني خيام وبيوت وحارات، الصحراء والنخيل والإبل والخيول، الناس والملابس الشعبية، وحتى العيون الواسعة التي تعبّر عن التأمل. لكنها لا تُقدَّم كوثائق تاريخية فقط، بل تُعاد صياغتها فنياً ضمن تكوين بصري معاصر. 2. التكوين البصري المركّب يميل إلى بناء لوحاته من خلال طبقات من الأشكال والخطوط المتداخلة والمساحات المتناغمة التي توحي بعمق الزمان والمكان في تكوينات متزنة ورصينة. فهو يستخدم الخلفية كتاريخ، والواجهة كحاضر، مما يمنح المشاهد شعورًا بالحركة داخل اللوحة وتأمل في ذاكرة المكان وشاعريته. 3. اللون بوصفه أداة نفسية يستخدم الدهام الألوان لا بوصفها عناصر تجميلية، بل كأدوات لخلق الحالة الشعورية. فالألوان الحارة (الأحمر، البرتقالي، الأصفر) تحضر في موضوعات الغضب أو الثورة، بينما يغلف الأزرق والرمادي أعمال التأمل والحزن، والأخضرات للراحة والنعيم والدفئ. ثانيًا: تحليل لأبرز موضوعاته 1. الإنسان كمحور مركزي ركز الدهام على الإنسان بوصفه رمزا للحياة ومركز الألم والأمل. لوحاته التي تصور وجوه الرجال والنساء والأطفال تختزل تجارب شعورية معقدة، من الغربة، إلى الانتظار، إلى الحلم. هناك إحساس دائم بأن الشخوص التي يرسمها لا تنظر إلينا، بل تنظر من خلالنا. 1. المرأة في لوحات الدهام لم تكن المرأة عند الدهام مجرد شكل جمالي أو عنصر زخرفي. بل جسّدها كبنية رمزية لتمثل الوطن، الأرض، الصبر، الخصوبة والعطاء. تظهر غالبًا مكللة بالحجاب، ولكنها ذات حضور طاغٍ وقوي، تحمل أسرار المجتمع وتاريخه. 1. الطفولة والبراءة في أعماله التي تناولت الطفولة، مثل لوحته الشهيرة عن "الشهيد محمد الدرة" التي أصبحت غلافا لكتاب غازي القصيبي، بدا الدهام متمسكًا برمزية الطفولة البريئة كضحية للواقع السياسي والإنساني المزري، مما يضفي طابعًا إنسانيًا ورساليًا على تجربته. ثالثًا: بين الواقعية والتجريد يمتاز الدهام بقدرته على الدمج بين الواقعية الرمزية والتجريد اللوني، حيث تبدو بعض أعماله وكأنها مستوحاة من الحارات الشعبية أو الأزقة القديمة، لكنها في الوقت ذاته لا تُظهر التفاصيل بشكل دقيق، بل تلمّح لها من خلال ضربات فرشاة واسعة وعناصر اختزالية، مما يمنح اللوحة طيفًا بين التمثيل والتأويل. رابعًا: البعد الفلسفي والفكري من يطالع أعمال الدهام يكتشف أنها لا تُقرأ قراءة بصرية سطحية فقط، بل تفتح أبوابًا للتأمل في مفاهيم كبرى: الزمان، المكان، عناصر الحياة (التراب، النار، الماء، والهواء)، الهوية، التراث، الوطن، الغياب، الانتظار، والمصير. هذا العمق الفلسفي جعله يقترب من روحانية الصورة وتجلّي الشكل واللون، إن "الظاهر" ليس إلا مرآة ل"الباطن" بالضرورة. خامسًا: تأثيره الثقافي والفني مسيرة الدهام الثقافية وتجاربه التشكيلية لم تكن فقط موضوعًا للعرض، بل كانت محفزًا للنقاش، ومادة للكتابة النقدية، ومنطلقًا لعدد من الفنانين الشباب. وقد ساهم في تشكيل وعي بصري سعودي يؤمن بأن الفن لا يقل عن الشعر والخطابة في صناعة الوعي الجمعي من خلال تنظيم والمشاركة في عشرات المعارض السعودية والخليجية والعربية والعالمية. ختاما، سمير الدهام.. البصمة لا التوقيع لم يكن سمير الدهام فنانًا يهمّه توقيعه أسفل اللوحة، بل ما يهمّه هو أثر تلك اللوحة في الذاكرة والوجدان. لقد بنى خلال خمسين عامًا "لغة بصرية سعودية" تمزج بين التراث والحداثة، الشكل والخلفية، اللفظ والمعنى. وبوفاته، فقدت الساحة التشكيلية فنانًا لم يكن فقط راسمًا للوحة، بل نحاتًا للروح. رحل الدهام.. ولكن ظلاله لا تزال تلوّن الجدران والنفوس. سمير الدهام