لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثرية مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل.. منذ بدايات المسرح العالمي وبعد أن خرج من عباءة الدين في عصر النهضة، أصبح يعالج مشكلاته الاجتماعية والسياسية، حيث شعر القائمون عليه بحالة من النقص أو عدم الاكتمال. هذا الشعور هو الذي دفعهم نحو التجديد والابتكار، فهناك حالة دفينة، بشيء يحرك الأحاسيس والوجدان، فانتفاء القدر الإغريقي في كتابات الكلاسيكيين الجدد جعلهم يبحثون عن قوى أخرى تحرك الأحداث والشخصيات، حيث كانت أفكار مسرحياتهم مستمدة من آلهة وأبطال الأساطير الإغريقية، ولكن الصراع أخذ فيها بعداً آخر فيما بعد، فأصبح بين العاطفة والواجب بدلاً من التصارع البشرى مع الآلهة. ومثلما حاول كتاب اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد الإيحاء بأن هناك قوى مسيطرة تنظم حركة الصراع وأسموها القوة القدرية أو (الأنا نكى)، حاول الكلاسيكيون الجدد الإيحاء بها أيضاً، ولكن بشيء من العدالة الشعرية، وجعلوا مصير البشر متعلق بخطاياهم مثلما نرى في كتابات (جان راسين 1639-1699) و(بيير كورني 1606-1684)، كما أن هذه الفترة شهدت تغييرات جوهرية استمد منها العالم روح التجديد والابتكار، فنرى "كورني" في مسرحية "السيد" يضرب بالقواعد الكلاسيكية عرض الحائط ليثير الرأي العام في ذلك الوقت ويحدث ضجة فكرية حتى عرض الأمر على الأكاديمية الفرنسية لتفصل في الخصومة، فألف المجمع اللغوي لجنة برئاسة الأديب الفرنسي "شابلان" لتقد يم تقرير مفصل عن مسرحية "السيد" أدانت فيه "كورني" بما أسموه الشطحات الفكرية والتمرد، الأمر الذي دعا "كورني" لكتابة بعض المقالات دفاعاً عن مسرحيته ويفند فيها رأي الأكاديمية. ولقد أصبحت هذه المقالات وهذا التقرير أحد أبرع المراجع النقدية؛ والذي يثير التساؤل: ما الذي أوحى إلى "كورني" بالخروج عن هذه القواعد الكلاسيكية؟ إنه ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال! ثم يتلوه تساؤل آخر، وهو ما الذي يدفع كاتباً مثل برانديللو أن يحاول جذب المتفرج إلى داخل الواقع من خلال التقاطع مع بعض مستويات الحقيقة، ويصبح المتفرج جزءاً من تكعيبية الطرح الفكري؟ إنه يجعل المتفرج جزءاً من الواقع المسرحي المعاش في لعبة المسرح داخل المسرحية، ذلك لأن "لويجي برانديللو 1867-1936"، لم يعد يشعر بذلك الدفء الذي يتواصل من خلاله مع الجمهور! وبعيداً عن الخواء الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، نجد بر يخت يقدم لنا المذهب الملحمي الذي يسعي إلى دمج المرسل والمتلقي في حالة وجدانية واحدة، أو في حالة تفاعل جمعي، إنهم جميعاً يشعرون بهذا الإحساس بعدم الاكتمال الذي حاول كل رجال المسرح الغربي البحث عنه ومحاولة الوصول إلى حله. ومن هنا شهد القرن العشرين محاولات عديدة لجعل المتفرج جزءاً إيجابياً في العرض المسرحي، وذلك لأغراض متعددة، وكانت معظم تلك المحاولات تقليداً لهذا التكنيك التكعيبي – أي تكنيك يحطم الحاجز الوهمي بين العمل الفني وواقعه المباشر دون أن تكون ترجمة لفلسفة التكعيبية. ولقد حاول الكاتب الألماني بر يخت استثارة فكر المتفرج عن طريق تقنيات المسرح الملحمي الذي ألغي فيه عنصر التعاطف مع الشخصيات المسرحية أي التركيز على العقل، مما يشعرناً بتجاهله للوجدان إلا أن الملكات الوجدانية كالعواطف والمشاعر والانفعالات فرضت نفسها على هذا المسرح، فالملكات المعرفية كالذكاء والأحاسيس تضافرت مع الإرادة والحوافز والغرائز! فالسكولاسيون -وهم فلاسفة العصور الوسطى- ليس لديهم تصنيف منفصل للظواهر الوجدانية، لأنهم يعتبرونها مجرد تحويرات للنشاطات المعرفية والنشاطات المثيرة، فعلى سبيل المثال لاحظوا بعض الخطر (المعرفي) فحاولوا تجنبه؛ أثناء الإدراك وكافحوا حتى لا نصبح متأثرين بالخوف. فتجربة مثل مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) التي قدم فيها فلسفة أسلوب المدرسة التكعيبية، ويحاول أن يحطم التصور الفوتوغرافي للواقع ويعمل فيه فكره ليكشف لنا مستوياته المتعددة وعلاقاته المتشابكة، مؤكداً فكرة نسبية كل شيء، وفكرة استحالة المعني المطلق لأي شيء، فقدمها في صورة كوميديا تثير مشاعر الضحك كما تعمل على صدم المشاهد في واقعه مما يجعله يتعاطف وينفعل. وفي محاولات (الفريد جاري) في البعد عن عرض الأفكار والقضايا الجادة لهدف تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها وإظهار عبثيتها، كان يرى عالم ما وراء الطبيعة كعالم مجهول من الظواهر العارضة، التي تفتقر إلى منطق ساخر من كل الفلسفات الميتافزيقية، وتأثر فيها إلى حد كبير بالرمزيين ولكنه يتميز عن الرمزيين بافتقاده للمعنى الكلي خلف ظواهر الطبيعة أي الإيمان بوجود عالم روحي!، "إنك عندما تقص قصة مفهومة فإنك تلقي عبئاً على العقل المتلقي وتفسد الذاكرة، ولكنك عندما تقص قصة لا تخضع لقواعد المنطق المألوفة فإنك تعطي العقل والذاكرة فرصة للتفكير الخلاق". وهو رأي يدحض فلسفة الباتافيزيقا من حيث بعدها عن هذا العالم الروحي، لأنها تقدم ما لا يخضع لقواعد المنطق وبالتالي فإنها تعمل على إثارة فكر المتلقي. ولقد انتفع (يوجين يونسكو 1909-1994) بالكثير من عناصر (السريالية) وإن كان يدين بالفضل ل(ألفريد جاري 1873-1907) والباتافيزيقين، فنجده يقول "إنني أؤمن بأن الفنان لا بد أن يمتلك خليطاً من التلقائية والدوافع اللاواعية وقدرة على الوصول إلى رؤية واضحة لا تخاف أي شيء، فيسمح الفنان لطوفان اللاوعي للانطلاق، ولكن بعد ذلك يأتي دور الفحص والتنظيم والفهم والاختيار لتحقيق العمل الفني الناجح. إنه يخاطب الملكات المعرفية والغرائزية الحسية محاولاً إعادة صياغة الواقع كما حاول الرمزيون أمثال (موريس ميترلنك 1862-1949) الإيحاء بتوقف وتعطيل الحركة الخارجية ونقل الحدث إلى الداخل إلى الوجدان كما في مسرحياته (الدخيل أو ولياس أو العميان). لقد جاءت كل محاولات المسرح المعاصر من مسرح العبث، والغضب، والمسرح الحي، للتأكيد على أن النفس البشرية حياة كامنة وثريه مليئة بالمتناقضات ومخاطبة اللاوعي الإنساني الجماعي والتركيز عليه بدلاً من اللاوعي الفردي ورغبتها في التواصل، ولذا لجؤوا إلى التاريخ والعالم السحري والأسطورة وبكل أشكال التراث لتحدث هذه الحالة من التواصل!