تعويدُ الإنسان نفسَهَ على الوفاء بالعهود والعقود يجعله على الجادّة الصحيحة، وهو مما يعلو به شأن صاحبه، وقد امتدح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صهراً له فقال عنه: (حَدَّثَنِي، فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي)، أخرجه البخاري، كما أن الوفاء يُشيع الوئام في المجتمع.. الوفاءُ من الخصال الحميدةِ التي لا يستهين به العاقل، وهو يدخل في أبوابٍ كثيرةٍ، وحقيقته الشاملة لتلك الأبواب: إتمام الإنسانِ ما يجب عليه إتمامُه، ومن هنا نشأت أهميّتُه وصعوبته، أما الأهميَّة؛ فلأن مجيء الإنسانِ بما عليه من الالتزامات على الوجه اللائق عنوانٌ لحصول كل ذي حقٍّ على حقِّه، وبهذا تتحقق مصالح كل طرفٍ، وأما الصعوبة؛ فلأن النفس أمارةٌ بالسّوءِ إلا من رحم الله، وحملها على محاسن الأخلاق ومكارم الشِّيم بالاستعانة باللهِ تعالى، ثم بالترويض لها وصبرها على مكارهِها، فالصفات المحمودة شرعاً وعرفاً تحتاج إلى مصابرةٍ، وحسن الوفاءِ مما يعضُّ عليه المؤمنون بنواجذهم، ويتنافس عِلْيةُ الناس في التحلّي بحليته، وقد كانت العرب متشبثة به في جاهليتِها، فلا يألو ذوو المروءات منهم جهداً في الوفاء بعهودهم ومواثيقهم، يتمدَّحون بذلك، ويشيدون بأهل الوفاء، ولو عرفوا عن فلانٍ من الناس غدرةً ارتكبها لظلُّوا يعيرونه بذلك، ثم جاء الإسلام فقرر الوفاءَ، وأكّد على مركزيّته في معاملة العبد لربِّه سبحانه وتعالى، وفي تعاملاته مع الناس، وجعل التفريطَ في الوفاءِ بالعهد من خصالِ النّفاقِ العمليِّ، ولي مع الوفاء وقفاتٌ: الأولى: أول ما يجب الوفاء به عهدُ الله وميثاقه، وعهد الله يتناول العهدَ الذي أخذه على بني آدم حين أخرجهم من صُلب آدم، وهو المذكور في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، والإقرار بعبودية الناس لربّهم يقتضي الوفاءَ بكلِّ ما فرضه عليهم، وهذا الوفاء لازم للمكلَّف أصالةً، وقد يجب عليه الوفاء بحقِّ الله تعالى من خلال إلزامه لنفسِه، كالنذر لله تعالى في القربات، فالطاعة المنذورة لله تعالى يجب الوفاء بها، وقد مدح اللهُ تعالى عباده بأنهم: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)، وكذلك ما توجبُه اليمين المنعقدة، فإما إبرار قسمه بفعل ما حلف على فعله إن ساغ، أو ترك ما حلف على تركه إن ساغ، وإلا فكفارة يمين، وقد قال تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَان)، ومن التهاون بالعهد ما يصنعه بعض الناس من أنه يحلف بالله تعالى ثم يمرُّ كأن شيئاً لم يكن، ولا يبالي أحنث في يمينه أم لا، بل لو تبين له حنثه لم يرفع رأساً للكفارة، والوفاء بهذه الأمور المذكورة حقٌّ لله تعالى، وقد أوعد اللهُ تعالى من نقض عهده وأخلَّ به، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). الثانية: هناك عهودٌ وعقودٌ في الوفاء بها حقٌّ لله من جانبٍ، وحقٌّ للعبادِ من جانبٍ آخر، وذلك في العهد الذي أمر الله عباده بإبرامه، كعهد البيعة الذي يأخذه وليُّ الأمر على رعيته، فهذا العهد فيه حق الله تعالى؛ لأنه أمر بأن يُعقد، وأمر بأن يُلتزم به، ونهى عن نقضه، وفيه حقٌّ لوليِّ الأمر؛ إذ من حقه الإخلاص له وطاعته، وفيه حقٌّ لعامةِ الناسِ؛ إذ في الإخلاص للإمام مصلحةٌ عامّةٌ، وفي غشِّه مفسدةٌ عامّةٌ، ومن العهود التي تتضمن حق الله تعالى وحقوق عباده: العقود اللازمة الجارية بين الناس في معاملاتهم مما أذن لهم فيه، فقد أوجب الله تعالى الوفاءَ بها، وهو أيضاً حقٌ لكلٍّ من المتعاقدين، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون) "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَادَهُ بِالْوَفَاءِ بِعُهُودِهِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِآخَرِينَ بِعُقُودٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ بِحَقٍّ مِمَّا لَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ"، ومن الوفاء الذي يؤدّي به العبدُ حقَّ الله وحقوق عباده مقابلةُ الإحسانِ بمثله وحفظ حقِّ أهل المودَّة، وهو حقٌّ يقبل التوارثَ المعنويَّ، فأصدقاء الوالدِ يستحقون أن يقابلهم ولدُه بالمبرَّة، وفي الحديث الصحيح: (إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ). الثالثة: تعويدُ الإنسان نفسَهَ على الوفاء بالعهود والعقود يجعله على الجادّة الصحيحة، وهو مما يعلو به شأن صاحبه، وقد امتدح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صهراً له فقال عنه: (حَدَّثَنِي، فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي)، أخرجه البخاري، كما أن الوفاء يُشيع الوئام في المجتمع، والعكس بالعكس فالاستخفاف بحقوق الآخرين يضع من مكانة صاحبه، ويُهيِّج الشنَآن، ويُوغِرُ الصدورَ، ويحمل كثيراً من الناس على إضمار الشّر للغادر، وعدم الإنصاف من أكثر أنواعِ القطيعة وتوتُّرِ العلاقة بين القرابة والأصدقاء والشركاءِ، وصدق من قال: إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ ... عَلَى طَرَفِ الْهِجْرَانِ إِنْ كَانَ يَعقِلُ.