في العادة، تحتاج الدول إلى ميزانيات ضخمة، ومستشارين أجانب، وشركات علاقات عامة عالمية كي تُحسِّن صورتها أمام الإعلام الغربي.. لكن السعودية، في مايو 2025، حققت ذلك بدون مقابل، حين فتحت أبوابها لاستقبال الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، فاستقبلته ليس بالبروتوكول فقط، بل بالمشهد. والمشهد، هنا، كان رسالة بحد ذاته. منذ اللحظة الأولى، كانت الزيارة نموذجاً اتصالياً مكتمل التفاصيل اختصر تحولات عقدٍ من الزمن، ورسائل المملكة الجديدة تتوزع ما بين اقتصادٍ يوقّع، وتكنولوجيا تُعلن، وشراكات تُبنى على أرضٍ تُعاد صياغتها. لم تحتج السعودية إلى خطاب دعائي، العالم كله، على مدى يومين، كان يتابع بثاً حيًّا من قلب الرياض: رؤساء شركات، قادة تكنولوجيا، مؤسسات إعلامية، وصحف غربية تسأل لا لتحلل فقط، بل لتفهم: ماذا يحدث؟ كان المنتدى الاستثماري السعودي-الأميركي هو قلب الزيارة، فشركات بحجم "أوبن إيه آي" و"تسلا" و"مايكروسوفت" وغيرها، لم تأتِ لمجرد توقيع، بل لتكون شريكًا في قصة تحوّل. وبحسابات شركات العلاقات العامة، وتقديرات المتخصصين في القيمة الإعلامية المكتسبة، فإن التغطية التي حصلت عليها السعودية خلال يومي زيارة ترمب قدّرت -نظريًا- بأكثر من 900 مليون دولار (أكثر من 3.5 مليارات ريال تقريباً)، دون أن تدفع المملكة دولارًا واحدًا لشركات إعلانات أو علاقات عامة. أكثر من "475" تقريرًا بثتها منصات عالمية، تقارير تلفزيونية ومقالات رأي وتحليلات استراتيجية، تصدّرت فيها السعودية العناوين لا بوصفها "دولة في المنطقة"، بل "قوة تصوغ صورة المنطقة". في عُرف الإعلام، هذا الرقم ليس خيالًا، حين تُبث صور من الرياض على CNN وقت الذروة، وتتناول BBC مشاهد ولي العهد بجانب كبار المستثمرين. لكن الفرق هنا؟، أن هذه الحملة لم تُصمم في مكاتب شركات دولية، بل انطلقت من مطار المللك خالد الدولي بالرياض، وعلى أرض سعودية، وبمشهد سعودي، وصورة لم تحتج مُخرجًا، بل واقعًا ناطقًا، فقنوات ووسائل إعلامية مرموقة مثل "CNN، BBC، Fox News"، وبلومبيرغ، وول ستريت جورنال، تناولت الزيارة كحدث عالمي، لا مجرد زيارة رسمية، كل صورة، كل تصريح، كل جلسة، تحوّلت إلى محتوى يعاد تداوله، ويدخل غرف التحرير من بوابة الدهشة: هنا السعودية؟ واللافت، في تعليقات الإعلام الأميركي، أن السعودية لم تعد في خانة "الدولة التي نراقبها"، بل الدولة التي يُحسب لها الحساب، (بلومبيرغ) وصفت ولي العهد بأنه يقود الملف النفطي والتقني والاقتصادي بأدوات جديدة، وبأفق يتجاوز الملفات التقليدية. وما أثار الاهتمام في تفاصيل الزيارة، أن ولي العهد لم يُكثِر من الحديث، لكنه كان هو الحدث، لقاءاته، حواراته الجانبية، اختياراته في الشخصيات التي يستقبلها، كانت كلها رسائل غير مباشرة بأن المملكة لم تعد تتعامل مع الملفات من زاوية النفط فقط، بل من منظور الاستباق والابتكار والاستثمار في الإنسان. زيارة ترمب للرياض، لم تكن مجرد حدث سياسي، بل عرض عالمي للمملكة العربية السعودية ما بعد النفط، وما بعد الصورة النمطية، سعودية تتحدث عن نفسها، ليس بالكلام، بل بالفعل، والأرقام، والانفتاح على العالم من دون أن تتخلى عن ثوابتها. ولأن الإعلام لا يحترم إلا من يصنع الصورة، فقد صنعت السعودية هذه المرة الصورة كاملة، دون أن تدفع ريالًا واحدًا للدعاية الإعلامية، فزيارة الرئيس الأميركي للرياض لم تكن مجرد زيارة رئاسية، بل كانت "نقطة تحوّل" إعلامية في تعريف العالم بالسعودية الجديدة، وعملت كأكبر حملة علاقات عامة غير مدفوعة للمملكة في تاريخها الحديث، ومن منظور استراتيجي، كانت أذكى استثمار سعودي في التأثير على الرأي العام العالمي دون إنفاق على الحملات.