الجيش الإسرائيلي يعاني الإرهاق رغم التصعيد العسكري المستمر في غزة، تظل الحقيقة ثابتة، وهي أن القوة وحدها لا تصنع سلاما دائما. فالتجربة تثبت أن الحلول الأمنية دون أفق سياسي تؤدي إلى مزيد من العنف والمعاناة، دون معالجة جذور الصراع. هذا ما أكده المحلل العسكري الأمريكي براندون وايكيرت، الذي يقدم استشارات دورية لمؤسسات حكومية ومنظمات خاصة في قضايا الجغرافيا السياسية، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية. ويضيف وايكيرت أن الجيش الإسرائيلي يُعد قوة قتالية أسطورية في الشرق الأوسط، إذ صمد في وجه حروب وجودية متعددة مع جيرانه العرب، غير أنه، ومنذ بدء رد إسرائيل على الهجمات التي نفذتها حماس في 7 أكتوبر 2023، وجد الجيش الإسرائيلي نفسه في دوامة لا تنتهي من الحرب الدموية وغير الحاسمة في قطاع غزة. ويقول وايكيرت إنه في الحقيقة لا يعلم أحد كيف ستنتهي هذه الحرب. فالقادة الإسرائيليون يُصرّون على أنها ستنتهي بالقضاء التام على حماس، ولكن ما المعايير التي تحدد تحقيق هذا الهدف؟ وإلى أي مدى تم فعلا إضعاف حماس؟. ومع الأخبار الأخيرة التي تفيد بأن إسرائيل بصدد استدعاء 60 ألف جندي إضافي لنشرهم في غزة، وفي ظل تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فيما يتعلق ب»السيطرة» على القطاع، كيف يمكن أن يتوقع المرء انتهاء هذه الحرب في أي وقت من الأوقات؟ وتشير التقارير إلى أن هؤلاء الجنود سيقيمون نقاط تفتيش مزودة بتقنيات التعرف على الوجه لتحديد هوية جميع سكان غزة. وبعد إدخال معلومات هؤلاء السكان في قاعدة بيانات ذات طابع رقابي صارم، سيسمح لهم بالحصول على المساعدات الإنسانية. ولكن سواء أرسلت إسرائيل 60 ألفا أو حتى 100 ألف جندي لاحتلال غزة بشكل دائم، فإن الاعتقاد بأنها ستنجح في إدارة هذه المنطقة مع القضاء الكامل على حماس هو أمر غير واقعي. فالجيش الإسرائيلي يعاني من الإرهاق أصلا، وتوغله في غزة لم يكن بالفعالية التي أعلنت عنها الحكومة الإسرائيلية غلى الملأ. وبصرف النظر عن الموقف الأخلاقي من أفعال إسرائيل، فإن الوقائع من منظور استراتيجي واضحة، وهي أن حملة القصف الجوي المكثفة التي تشنها إسرائيل على غزة لا تحقق أهدافها. وما يزيد الأمور سوءا هو أن هذا القصف المستمر بات يهدد المكانة الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة والعالم. فدول الجنوب العالمي بدأت تصطف ضد إسرائيل، مُتبنية، ولو شكليا، موقف إيران وحلفائها من الفصائل الموالية لها. وحتى الصين وروسيا، اللتان كانتا تقليديا تتخذان موقفا حياديا من إسرائيل، بدأتا تميلان إلى جانب إيران في هذا الصراع. أما تركيا، فبات من الواضح أنها تتحرك بجرأة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤيتها الخاصة. وفي الفترة التي سبقت تحرك إسرائيل ضد حماس في غزة ردا على هجومها في 7 أكتوبر، كان الحديث بين القادة العسكريين الإسرائيليين والخبراء الدفاعيين في العالم يدور حول حملة ميدانية من بيت إلى بيت تستهدف عناصر حماس، شبيهة بمعركة الفلوجة الثانية في عام 2004. وقبيل هجمات حماس، أظهرت استطلاعات أن 67 % من الفلسطينيين في غزة كانوا لا يثقون أو يثقون قليلا بحماس، الحاكمة للقطاع. وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن الطابع «الدقيق» لضربات إسرائيل الجوية، فإن الواقع أن غزة باتت مدمرة بشكل شبه كامل. أما سمعة إسرائيل على الساحة الدولية فقد تدهورت بشدة، وباتت تواجه خطر أن تصبح دولة منبوذة في نظر كثيرين ممن يرون أن هدفها هو «تطهير غزة عرقيا». ويقول وايكيرت إن دولة كان يفترض أن تحظى بتعاطف العالم بعد «هجوم إرهابي مروع وغير مبرر»، أصبحت اليوم مهددة بأن تواجه كراهية العالم المستمرة. ولم يكن ينبغي أن يكون الوضع كذلك. ويرجع جزء من سبب وجود هذا الوضع الآن إلى فشل سياسات الحرب الإسرائيلية. ويضيف وايكيرت أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المُعلنة. فمنذ الأيام الأولى للحرب، أوضحت القيادة الإسرائيلية أن هدفها هو تدمير حماس واستعادة الرهائن. وبالرغم من أن حماس قد تعرضت لأضرار جسيمة، وربما لدمار كبير، ألحقت الأساليب التي استخدمتها إسرائيل على الأرجح ضررا بأي تصور كان لدى قادتها حول نهاية الحرب. والأسوأ من ذلك، أن الرهائن لم يتم إعادتهم جميعا حتى الآن. ومع ذلك، تواصل إسرائيل القصف كما لو أن كل شيء يجري في فراغ. وقد واجهت إسرائيل ما تعانيه كل الجيوش الغربية الحديثة، حيث بات أسلوب الحرب الذي اعتادت عليه الدول الغربية في حاجة ماسة إلى إعادة نظر. وسواء كان ذلك في عجز إسرائيل عن تنفيذ حملة على غرار الفلوجة، أو فشل الولاياتالمتحدة في القضاء على الحوثيين من الجو. ومن الواضح أن الجيوش الغربية كلها في دوامة. فهي عالقة في نمط قتال يعود إلى حروب القرن العشرين. أما أعداء الغرب فقد تكيفوا مع ذلك النمط القديم من القتال، وبدأوا بتجميع مواردهم بطرق تعجز مراكز التخطيط في أمريكا وإسرائيل عن فهمها. ربما يكون إنشاء خط دفاعي يفصل إسرائيل عن غزة هو الخطوة الأولى نحو تأمين دفاع فعلي. وستحتاج إسرائيل إلى اتخاذ خطوات إضافية. لكن الأمر المؤكد هو أن غزو غزة واحتلالها وترهيب سكانها الفلسطينيين المدمَّرين لن يجلب لإسرائيل لا السلام ولا الأمن على المدى الطويل. وعلى إسرائيل أن تضع استراتيجية جديدة، وفقا لما قاله وايكيرت. ما خطط نتنياهو لتوسيع الحرب؟ بعد أن ظلت جهود العودة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة تراوح مكانها على مدار الأسابيع الماضية، يبدو أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حسمت أمرها وتتجه لتوسيع الحرب، في ظل تمسكها بشرط تخلي حماس عن سلاحها، وإصرار الحركة في المقابل على شرطها باتفاق يفضي إلى وقف تام للحرب. ولكن يظل التساؤل المهم في هذا الصدد، وهو ماذا في جعبة حكومة نتنياهو من خطط لتكثيف عملياتها العسكرية، وهي التي تحارب في القطاع طيلة أكثر من 18 شهرا، لم تتمكن خلالها من تحقيق أبرز هدفين تعهدت بتحقيقهما، وهما تدمير حركة حماس وتحرير الرهائن، حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز. وأوضحت الصحيفة الأمريكية أنه على الرغم من مرور أكثر من عام ونصف العام من الحرب المدمرة، «لم تتمكن إسرائيل حتى الآن من تحقيق أي من هذين الهدفين بشكل كامل. وعلى الرغم من أن إسرائيل تمكنت من قتل العديد من قادة حماس، خاض المسلحون الفلسطينيون حرب استنزاف عنيدة، وجندوا مقاتلين لقضيتهم، ويعتقد أنهم لا يزالون يحتجزون ما يصل إلى 24 رهينة على قيد الحياة وجثث عشرات آخرين». وفي ظل توقعات بمصادقة نتنياهو رسميا على خطط توسيع الحرب اليوم الأحد، ذكرت هيئة البث الإسرائيلية أن الجيش يستعد لاحتلال مساحات في قطاع غزة والبقاء بها وإجلاء سكان من شمال ووسط القطاع، مضيفة أن الجيش بصدد تطبيق نموذج رفح في مناطق أخرى داخل القطاع، في إشارة لعزل المدينة عن محيطها. وتتضمن خطة توسيع العملية العسكرية في غزة، والتي عرضها رئيس الأركان إيال زامير على رئيس الوزراء، استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وفقا لهيئة البث والقناة ال13 الإسرائيلية التي أشارت إلى أن هذه هي المرة الخامسة منذ 7 أكتوبر2023 التي يتم فيها استدعاء جنود الاحتياط. ونقلت القناة ال13 عن مصادر في الجيش أن «أهداف الحرب مرتبطة ببعضها ونتجه لتصعيد تدريجي مدروس». وفي السياق ذاته، ذكرت صحيفة معاريف أن «إسرائيل لا تعتزم احتلال غزة بشكل كامل في هذه المرحلة، لكن الجيش يستعد لتوسيع سيطرته على مساحات واسعة من القطاع». وأضافت الصحيفة العبرية، نقلا عن مصادر في الجيش، أن عددا من ألوية الاحتياط التي يعمل الجيش على تجنيدها سيتم نشرها على خطوط التماس في لبنان وسوريا والضفة الغربية، بهدف استبدال القوات النظامية هناك والتي سيتم تحريكها خلال الساعات المقبلة لصالح توسيع العملية في غزة بناء على إيعاز من المستوى السياسي. وبين تهديد إسرائيل بتوجيه ضربة قاسية لحماس وأن الأيام المقبلة هي فرصتها الأخيرة للإفراج عن المحتجزين، ووعيد بعدم التراجع حال لجوئها إلى «الحسم العسكري»، تواترت رسائل إسرائيل عبر تصريحات نسبتها وسائل إعلام إسرائيلية لمسؤولين بارزين. ونقلت القناة 13 عن مصادر في الجيش أن «حماس لن تجد طريق عودة إلى الوراء إذا تم توسيع العملية العسكرية في غزة». وتطرقت صحيفة نيويورك تايمز إلى التعبئة التي أعلن عنها في إسرائيل، معتبرة أنها قد تشير إلى أن تل أبيب تستعد لتغيير تكتيكاتها في محاولة لإجبار حماس على الموافقة على شروطها لإنهاء الحرب. وشككت الصحيفة في جدوى هذه الخطوة، قائلة: «من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيثبت نجاحه، حيث خاضت حماس قتالا حازما على مدار أكثر من عام من العمليات الإسرائيلية في غزة». وأشارت الصحيفة إلى أن القوات الإسرائيلية استأنفت هجومها على القطاع في 18 مارس بعد هدنة استمرت نحو شهرين، «ولكن بينما كانت الطائرات الإسرائيلية والطائرات بدون طيار تقصف غزة بانتظام من الجو، أبطأت القوات البرية الإسرائيلية تقدمها بعد الاستيلاء على بعض الأراضي». وكما أثار إعلان استدعاء جنود الاحتياط قلقا لدى سكان قطاع غزة مما قد تحمله الأيام المقبلة من تصعيد خطير، فإنه أثار قلقا أكبر بين عائلات الرهائن الإسرائيليين الذين يخشون أن يؤدي القتال إلى مقتل ذويهم. وبالفعل سعت تلك العائلات إلى حشد الإسرائيليين للضغط على الحكومة للتوصل إلى هدنة جديدة مع حماس، بينما تعالت بعض الأصوات المطالبة بإسقاط حكومة نتنياهو، متهمة إياها بعدم الاكتراث بحياة أحبائهم والتخلي عنهم مقابل السعي وراء تحقيق مكاسب شخصية. ويرى مراقبون أن ضغط عائلات الرهائن لن يكون الصداع الوحيد في رأس نتنياهو، وأنه يجب توخي الحذر من ردة فعل جنود الاحتياط الذين يعتمد عليهم الجيش بشكل كبير والذين تم استدعاء العديد منهم سبع مرات منذ بداية الحرب، وفقا لصحيفة يديعوت أحرونوت. فبعض هؤلاء الجنود أبدوا تذمرا ضد إدارة الحكومة للحرب، ووقعت مجموعة منهم في سلاح الجو والضباط المتقاعدين على رسالة علنية تحث على التوصل إلى اتفاق مع حماس لإعادة الرهائن، حتى لو كان الثمن هو وقف الحرب في غزة. وبينما يرى فريق من المحللين أن أوامر الاستدعاء تكشف أن إسرائيل وضعت اللمسات الأخيرة استعدادا لشن هجوم كاسح وشيك على قطاع غزة يتوقع أن ترتفع معه حصيلة ضحايا الحرب بصورة كبيرة، يرى آخرون أن الهدف من تلك الخطوة هو ممارسة المزيد من الضغط على حماس لتقديم تنازلات في المحادثات. الوضع الإنساني في غزة خسائر الجيش الإسرائيلي توزيع نقاط التفتيش الإسرائيلية