لعل من الأوائل الذين خدموا النهضة العلمية بالمسجد الحرام في القرن الرابع عشر الهجري المؤرخ والرائد التعليمي عمر بن عبدالجبار -رحمه الله- الذي وثّق علماء المسجد الحرام يوم أن كان العصر الذهبي لعلماء المذاهب الأربعة في هذه المرحلة، فجاء هذا المؤرخ ووثق هذه المرحلة الثرية العلمية، فهو شاهد عصر عليها، ورآها رأي العين بدون واسطة ولا إسناد، بل كان يجول في أروقة المسجد الحرام متنقلاً من حلقة علم إلى أخرى، كانت محبرته وقلمه يسجلان ويرصدان هذه الحركة العلمية، ثم بعد ذلك بسنوات جاء كتابه المفيد (دروس من ماضي التعليم بالمسجد الحرام)، فكان مرجعاً ومصدراً لكل من يكتب عن التاريخ التعليمي، وحينما كنت أطالع الكتاب منذ سنوات استوقفتني ترجمة عالم من علماء المسجد الحرام وهو استثناء من بين هؤلاء العلماء، إذ منحه الله مواهب وقدرات كانت قد ميزته في المسجد الحرام، ألا وهو العالم الفلكي الرحالة خليفة بن حمد النبهاني -رحمه الله-، وهو والد المؤرخ الفقيه المحدث محمد بن خليفة النبهاني الذي نشرت عنه تقريراً قبل سنوات في هذه الصفحة، وهو مؤلف (التحفة النبهانية) الذي يعد أحد المراجع في تاريخ الخليج العربي، وخليفة النبهاني كذلك والد أحد رؤساء بلدية الرياض أحمد بن خليفة النبهاني. وُلد خليفة النبهاني 1270ه بالمحرق بمملكة البحرين، وحدد الباحث المتقن بشار الحادي في كتابه (علماء وأدباء البحرين) مكان ولادته بحي الشيوخ بالمحرق، إضافةً أنه بدأ بطلب العلم في البحرين، فدرس على راشد بن عيسى المالكي، وذكر أيضاً أنه أرسله أبوه حمد النبهاني -رحمه الله- إلى مكةالمكرمة لمواصلة طلب العلم وكان عمره 17 عاماً عام 1287ه، والمؤرخ عمر بن عبدالجبار في كتابه (دروس من ماضي التعليم بالمسجد الحرام) سرد مشايخه في البحرين، وقد أدرك بعضهم، فقد أورد أربعة عشر شيخاً لشخصيتنا، أمّا الباحث بشار الحادي في كتابة (علماء وأدباء البحرين) فقد استقصي وذكر 45 شيخاً، لهذا كان له ثبت في سرد العلماء الذين درس عليهم أو أجازوه إجازات علمية. طاقة علمية ومع موسوعية خليفة النبهاني -رحمه الله- إلاّ أنه كان مهندساً، فلقد درس علم الهندسة آنذاك وقرأ فيها حتى أصبح من الراسخين في هذا، وبعدها درس على علماء الفلك في مكةالمكرمة وغيرها، ومن الذين درس عليهم الفلكي محمد يوسف خياط وأخذ عنه كذلك علم الميقات، كما درس العلوم الرياضية على حمد بن ناصر البغدادي، وكما قلت إنه درس الهندسة الميكانيكية وسوف ينتفع به المسلمون من علمه هذا في مكةالمكرمة، وكان النبهاني يصعد هو وتلامذته إلى جبل أبي قبيس ليدرسهم الفلك والمواقيت، وفعلاً كان أنموذجاً رائعاً ومثالاً حياً للعالم الموسوعي الذي كانت له طاقات علمية وإبداعات أدبية شعرية وفنية، فهو عالم بالفقه والحديث واللغة وسائر علوم الشريعة، وعالم بالهندسة والفلك، ويجيد الرمي بالبندقية، وهو غواص ماهر حاذق يتقن استخراج اللؤلؤ، أضف إلى ذلك أنه عالم بالفقه المالكي، وأصبح إماماً للمقام المالكي، وقد شغف شخصيتنا بعلم الفلك والمواقيت، وكان المرجع فيه، حتى كان له تلاميذ، بل كرس جهده ووقته في هذا العلم الجليل، وهو يُعد من المجددين لعلم الفلك، مع أن الأجهزة الحديثة لهذا العلم لم تتوفر لديه، ولو تحصل عليها لكانت له فتوحات في هذا العلم، أو أنه سافر إلى أوروبا وأميركا لاستفاد من بحوث الفلك الغربية، مع أنه تنقل في شرق آسيا وإفريقيا وغيرها من البلدان، فهو آية بل علاّمة في علم الفلك. مؤلفات النبهاني وكانت مؤلفات خليفة النبهاني -رحمه الله- التي وردت في سيرته في علم الأفلاك وهي؛ (الوسيلة المرعية لمعرفة الأوقات الشرعية في فن الميقات)، و(ثمرات الوسيلة لمن أراد الفضيلة)، و(رسائل في علم الفلك)، ويذكر العلامة علي جواد الطاهر -رحمه الله- في كتابه (معجم المطبوعات بالمملكة العربية السعودية) أن هذه الرسائل تدرس في المدرسة الصولتية؛ ولا شك أن هذا من العلم النافع، ومن مؤلفات النبهاني (مختصر أقرب الوسائط في رسم البسائط) وهذا الكتاب والكتاب الثاني والثالث المرقم ذكرها ابن شخصيتنا محمد بن خليفة النبهاني في كتابه (التحفة النبهانية)، وهذا الأخير عالم بالفلك والمواقيت وله فيه مؤلفات، ولعله أخذ علم الفلك من والده نابغة زمانه في الفلك، هذا بعض ما ذكره ابن شخصيتنا عن مؤلفات والده، ومن المؤلفات الأخرى التي لم يذكرها ابن شخصيتنا وذكرها عمر بن عبدالجبار وعلي جواد الطاهر والباحث بشار الحادي، والطاهر ينقل عن عمر عبدالجبار، وكذلك الباحث بشار الحادي إلاّ أن الباحث بشار انفرد بأن مخطوطة (الوسيلة المرعية لمعرفة الأوقات الشرعية) توجد منه نسخة بخط عبداللطيف آل محمود، وهو من تلاميذ خليفة النبهاني، وهي في مكتبة إبراهيم آل محمود حفيد عبداللطيف آل محمود، ومن مؤلفات خليفة النبهاني في الفلك (منظومة في منازل القمر)، وكتاب (التقريرات النفيسة في بيان البسيطة). قدوة العلماء وذكر الباحث بشار الحادي بعض ما قيل في خليفة النبهاني -رحمه الله- من الذين عرفوه، حيث قال عنه محمود سعيد مدوح في (تشنيف الأسماع): هو العلامة الفقيه، الفلكي، والرياضي، المعمر، العمدة، المؤقت، قدوة العلماء، وقال عنه مسند الشرق سالم بن جندان الجاكرتاوي المتوفى 1395ه في ثبته (روضة الولدان في ثبت بن جندان): الأستاذ، العالم، الإمام، الفقيه، العلامة، الهمام، المحدث، المسند، الثبت، الثقة، الحافظ الأصل، وقال أيضاً: جئت إليه زائرا غير مرة، ومستفيداً من سعة علومه الغزيرة، وكان عالماً من العلماء العالمين والصلحاء الواصلين معلوماً بالبركة، مشهوراً بالصلاح وحسن الطويلة، مشاركا في العلوم، بارعاً في سائر الفنون، مع الفطنة الوقادة، والإدراك السليم، وقال عنه الشاعر أحمد حمدي ملا حسين البصري: وهو العلم كم في الناس تعلو به الرتب هو المجد إلاّ أن إدراكه صعب ولا يدرك الآمال من لم يكن لها صبوراً ولن يعي وإن صادف العطب همة عالية وقال محمد حامد أحمد الحسني الحنفي السنوسي عن خليفة النبهاني -رحمه الله-: العالم، الفقيه، الفلكي الرباني، حضرة الفاضل الكامل، نشر الله في الناس علمه، وحفظ بفضله من الأفول نجمه، وجعل حظوظه من السعادة وافرة، وأسعدنا وإياه والمسلمين في الدنيا والآخرة، وقال سليمان بن عبدالمعطي بن إبراهيم عن النبهاني: الأستاذ الفاضل، الراجي من ربه الغفران، الشيخ خليفة ضاعف الله له أجوراً، وجعل سعيه مشكوراً، كذلك قال عنه تلميذه القاضي الشيخ عبداللطيف بن محمود آل محمود: الفاضل الكامل، العالم العامل، نادرة هذا الزمان، الباذل وسعه في العلوم والعرفان، نفع الله بعلومه المسلمين ونظمنا وإياه في سلك عباده الصالحين، وقال عنه شيخه الشيخ محمد بن يوسف الخياط: حضرة الفاضل الغيور، ذي الهمة العلية، والنجدة الأريحية، الباذل في سبيل ترقية إخوانه المسلمين ما عز وهان، وقال عنه عبدالرحمن بن أحمد الدهان المكي: العالم الفاضل، والنحرير الكامل نادرة الزمان، وقال عنه الشيخ محمد مختار الدين فلمباني: العلامة والمحدث الفقيه الفلكي. بئر زمزم قصة الغريق؛ ذكرها المؤرخ عمر عبدالجبار في كتابه (دروس من ماضي التعليم) ونوردها بنص روايته قائلاً: مات أحد الحجاج غريقاً في بئر زمزم، فأحضر ولاة الأمر الغواصين من جدة لإخراج الغريق، لكنهم فشلوا وخيل إليهم أن البئر واسعة تمتد إلى باب السلام غرباً والكعبة شرقاً، فلما علم خليفة النبهاني -رحمه الله- بذلك أسرع إلى بئر زمزم فخلع ملابسه وربط في قدميه «قلتي حديد»، مكنتاه من النزول إلى قاع البئر، فأخرج الغريق، وأخبر الغواصين بوجود أوساخ في قاع البئر، وأرشدهم إلى الطريقة الفنية للوصول إلى قاع البئر، فغاصوا على ضوء إرشاداته ونظفوا البئر، وشرح لهم ولطلابه وصف البئر فقال: إن عمق ماها 40 ذراعاً وارتفاعها من الأرض إلى علو فتحتها ثمان قامات وعرضها من أسفلها لا يتجاوز باع الإنسان، وأن البئر تحت الأرض ينبع ماؤها من صخرة مدورة منقورة نقراً عجيباً، -هذا الوصف يخالف روايات الأزرقي وغيره من المؤرخين من أن زمزم ينبع ماؤها من ثلاث عيون، وأن ماءها يمتد إلى الشرق والغرب والجنوب، وليس من رأى كمن قرأ وسمع-. إنقاذ السفينة وهذه قصة أخرى تدل على حذق ومهارة خليفة النبهاني -رحمه الله- في علم الفلك، وهي أنه كان في سفينة تبحر إلى إندونيسيا، وقد أخطأ الربان في مسيرته، فما كان من شخصيتنا إلاّ أن صار هو الربان، حيث قادها إلى الاتجاه الصحيح ووصلت إلى إندونيسيا، وكما قلت إن النبهاني رحالة، فقد زار إفريقيا وآسيا الكبرى وإندونيسيا وجزر الخليج العربي وعدن وزنجبار ودار السلام، ولكنه لم يكتب شيئاً مذكوراً عن هذه الرحلات الشرقية والغربية، ولم يوثق مشاهداته ومواقفه وكل ما رآه من غرائب وعجائب، ولو كتب لأضاف إلى المكتبة الإسلامية سفراً مفيداً وممتعاً وتحفة من تحف الرحلة، لكنه لم يفعل، وخليفة النبهاني درس علم الهندسة المختصة بالميكانيكيات، لهذا لما عرف المسؤولون مهارته جعلوه مسؤولاً عن تقسيم المياه في مكة، وعيّن رئيسا لعين زبيدة والزعفران. شخصية استثنائية ودرّس خليفة النبهاني -رحمه الله- في الحرم المكي خلف المقام المالكي وفي منزله بحي المسفلة، وكان يدرّس علم الفلك والميقات، وكان له تلاميذ كثر منهم المحدث حسن المشاط، وأحمد بن عبدالله دحلان، وهو قد أخذ علم الفلك من شخصيتنا، ومن تلاميذه محسن بن علي المساوي مؤسس دار العلوم وشارح بعض مؤلفات شخصيتنا، كذلك يس عيسى الفاداني مدرس علم الفلك والميقات بمدرسة دار العلوم. وأنا أقترح على أمانة العاصمة المقدسة إطلاق أحد الميادين أو الشوارع باسم خليفة النبهاني، وكذلك على وزارة التعليم بأن يجعل اسمه على إحدى المدارس، فهو شخصية استثنائية وأحد علماء الوطن، وله جهود كبيرة في علم الفلك من حيث التأليف والتدريس، وهذا نوعاً من الوفاء لشخصيتنا الذي أفنى عمره في العلم والمعرفة، ولم يرد بذلك المال والجاه والشهرة، ويكفي أنه منذ 1326ه وهو مسؤول عن عين زبيدة والزعفران، وقد أدارها بكفاءة، يوم أن كان الماء في مكة شحيحاً، خاصةً في موسم الحج، ونرجو من الله العلي القدير أن يثيبه على هذا العمل المبرور. توفي خليفة النبهاني ليلة الخميس من شهر ذي القعدة في غرته 1355ه، ودفن في مقبرة المعلاة، غفر الله له ورحمه وأسكنه الفردوس الأعلى، وهذا التاريخ هو الذي حققه الباحثان محمد الرشيد وبشار الحادي في ترجمتهما لشخصيتنا. خط خليفة النبهاني محمد خليفة النبهاني -رحمه الله- المؤرخ عمر عبدالجبار -رحمه الله- النبهاني وصف لطلابه بئر زمزم درّس خليفة النبهاني -رحمه الله- في الحرم المكي علم الفلك والميقات إعداد- صلاح الزامل