عندما تُعاد هيكلة العلاقة بين العقار والاقتصاد، تُولد بيئة أكثر جاذبية للمستثمرين الذين يبحثون عن وضوح في التشريعات وفاعلية في التنظيم، التعديلات ترفع من كفاءة القطاع، وتعزز جاذبيته الاستثمارية، وفي ظل رؤية السعودية 2030، من المهم أن نعي أنه بات يُنظر إلى العقار كمحرك ديناميكي يعكس نضج السياسات، ويقيس درجة نضج السوق.. حين يتحوّل النص النظامي من بنود قانونية إلى مرآة تعكس تحولات الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، فإننا لا نكون أمام "تعديل" فحسب، بل أمام "إعادة هيكلة" تحمل في طياتها رسالة استراتيجية بليغة، فقرار مجلس الوزراء السعودي برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بتعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء لا يمكن قراءته قراءةً عابرة، أو اجتزاؤه من سياقه الأشمل، بل هو جزء من ميثاق اقتصادي واجتماعي يحمل في جوهره تصحيحًا جذريًا لاختلالات هيكلية في سوق العقار السعودي. هذا القرار، يحمل خطوة مهمة نحو تحقيق التوازن في السوق العقاري، ويمثل أكثر من مجرد تعديل في نسب الرسوم أو توسيع رقعة التطبيق، فهو يُعيد طرح السؤال الأهم: لماذا ظلّت مساحات شاسعة من الأراضي والمباني داخل النطاقات العمرانية بلا استغلال حقيقي؟ ولماذا كان السوق العقاري يتحرك في كثير من الأحيان وفق إيقاع الاحتكار لا وفق منطق العرض والطلب المتوازن؟ من هنا، تظهر أولى طبقات التحليل، أن العقار، الذي كان يُعامل تقليديًا كأصل جامد يُحتفظ به من باب الأمان أو المضاربة، يُعاد اليوم تأطيره كأصل منتج ينبغي تحريكه في السوق لصالح المنفعة العامة والاستدامة العمرانية، كما أن فرض رسوم تصل إلى 5 % من أجرة المثل على العقارات الشاغرة، ورفع السقف إلى 10 % للأراضي البيضاء، إنما هي أدوات اقتصادية تُحاكي سياسات الحوافز والعقوبات التي لطالما اعتمدتها الاقتصادات الحديثة لتوجيه السلوك السوقي نحو المصلحة العامة. لكن ما يجعل القرار أكثر نضجًا هو شموليته؛ إذ لا يقتصر على الأراضي البيضاء التقليدية فحسب، بل يتسع ليشمل العقارات الشاغرة التي أُهملت، رغم جاهزيتها، وأثّرت سلبًا على وفرة المعروض العقاري، وهنا يكمن الذكاء التنظيمي في تعريف "العقار الشاغر" بجلاء، وهو العقار الجاهز الذي ظلّ بلا استخدام لفترة طويلة دون مبرر مقبول، ما يجعله مؤثرًا على نحو مباشر في ديناميكيات السوق العقارية. ولأن القرارات الاقتصادية لا تُقيم بمعزل عن بنيتها التقنية، فإن الإشارة إلى "قواعد بيانات موحدة ودقيقة" ليست تفصيلًا إداريًا، بل إشارة إلى نقلة نوعية في الرقابة والتحليل والتطبيق العادل، ولطالما شكّل غياب الشفافية والإحصاء الدقيق أحد أهم التحديات في قطاع العقار، وهو ما تلتفت إليه اللوائح الجديدة عبر اعتماد آليات واضحة للاعتراض والتظلم، لتكفل عدالة التطبيق، وتمنع التعسف في تفسير النظام. ولا يغيب عن هذا المشهد البُعد الاستثماري. فحين تُعاد هيكلة العلاقة بين العقار والاقتصاد، تُولد بيئة أكثر جاذبية للمستثمرين الذين يبحثون عن وضوح في التشريعات وفاعلية في التنظيم، التعديلات ترفع من كفاءة القطاع، وتعزز جاذبيته الاستثمارية، وفي ظل رؤية السعودية 2030، من المهم أن نعي أنه بات يُنظر إلى العقار كمحرك ديناميكي يعكس نضج السياسات، ويقيس درجة نضج السوق. ويأتي توقيت القرار في لحظة مفصلية يشهد فيها الاقتصاد السعودي تسارعًا نحو التنويع والانفتاح، ولذلك، فإن تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء لا يرتبط في جوهره بالإصلاح القطاعي، بل هو لبنة من لبنات التحول الوطني الأشمل، وربما كُلنا نُدرك أن تحقيق التوازن بين العرض والطلب لا يمكن أن يتم من خلال الدعوات أو التعويل على السوق وحده، بل من خلال تشريعات صارمة وعادلة في آن. ويبقى العنصر الأهم في هذا القرار هو تحرير السوق من ثقافة الاحتكار، التي عرقلت لسنوات إمكانات التطوير العمراني، وأضاعت على الدولة والمجتمع فرصًا كان يمكن توظيفها في توفير مساكن ميسرة وتحقيق العدالة السكنية، فالتعامل اليوم مع العقار ليس امتيازًا، بل مسؤولية، ومن يمتلكه دون أن يفعّله إنما يعطل دورة التنمية ذاتها، وهنا يظهر البعد الأخلاقي للقرار، الذي لا يستهدف العقاريين أو المستثمرين، بل يستهدف السلوك غير المنتج، بصرف النظر عن الفاعل. وفي هذا السياق، فإن مهلة التسعين يومًا لإصدار اللائحة الخاصة بنظام الأراضي البيضاء، والسنة المخصصة للعقارات الشاغرة، تمنح القطاع فرصة للاستعداد والتأقلم، دون أن تفقد الحزم والوضوح في الاتجاه، وهذا ما يميز القرار، بجمعه بين الصرامة والرؤية، وبين التحفيز والتقنين. وهكذا، يتضح لنا أن القرار ليس انعكاسًا لتوجيه فني فحسب، بل لصوت سياسي استراتيجي يُدرك أن التنمية لا تُبنى على فراغات بيضاء، بل على خرائط سكنية حية، وعلى عقارات تُشغل لا تُهمل، الرؤية لا تتعامل مع المساحات كجغرافيا جامدة، بل أنسجة حية تحتاج إلى نبض، وتحتاج إلى عدالة، وما نراه اليوم، ليس إلا فصلًا جديدًا في قصة العقار السعودي، قصة تُكتب بلغة الحوكمة، ويُراد لها أن تُروى بلغة الاستدامة.. دمتم بخير.