في سباق المؤسسات نحو التحول الرقمي، تبرز حوكمة البيانات كركيزة أساسية لضمان الاستخدام المسؤول، والآمن، والمُنظّم للبيانات. ومع ذلك، تُخطئ بعض المؤسسات حين تعتقد أن أول خطوة يجب أن تكون بفرض حوكمة صارمة وشاملة، حتى قبل أن تتضح لها الفوائد المرجوة من البيانات. ورغم أن النية قد تكون حماية الأصول وتفادي المخاطر، فإن هذا النهج قد يتحول إلى قيد مبكر يعطل التقدم ويقلل من زخم التغيير. لكن من المهم إدراك أن المشكلة لا تكمن في الحوكمة نفسها، بل في توقيت تطبيقها، وشكل تصميمها، ومدى توافقها مع واقع المؤسسة. فالمؤسسات تختلف في نضجها الرقمي، وحجم بياناتها، ومستوى المخاطر المرتبطة بها. المؤسسات التي تتعامل مع بيانات حساسة -مثل الجهات الصحية أو المالية- بحاجة فعلية إلى ضوابط حوكمة واضحة من المراحل الأولى، خاصة فيما يتعلق بتصنيف البيانات، وتحديد سياسات الوصول، وآليات الامتثال التنظيمي، أما المؤسسات التي ما زالت في بداياتها الرقمية، فيمكنها اعتماد نهج تدريجي أكثر مرونة، يبدأ من المبادئ الأساسية ثم يتوسع حسب الحاجة. عندما تُطبّق الحوكمة بشكل مفرط دون مبرر عملي، تظهر آثارها في شكل بطء في اتخاذ القرارات، وتضارب في المسؤوليات، وتأخير في تبنّي أدوات وتقنيات حديثة، فتطبيق أدوار ومسؤوليات غير واضحة، وإلزام الموظفين بإجراءات غير متصلة بواقعهم العملي، يخلق حالة من النفور أو اللامبالاة. وقد يصبح تمرير مشروع بيانات بسيط رهينًا بعدة موافقات وتداخلات تنظيمية، مما يحبط فرق العمل ويُفقد المبادرات مرونتها. هذه الإشكالية تمتد أيضًا إلى إدارة المخاطر. ففي غياب سياسة واضحة لتقييم المخاطر وتحديد معايير التبني، تتحول الإدارة إلى تجنّب مفرط، يُعيق استخدام أدوات تحليل حديثة أو تقنيات ناشئة بسبب «القلق»، لا بسبب تقييم علمي، مثال شائع على ذلك: منع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بعض المؤسسات دون دراسة حقيقية للمخاطر أو استكشاف حلول تنظيمية بديلة تسمح باستخدامها بأمان. والمفارقة أن بعض هذه المؤسسات ترفع شعار «القرارات المبنية على البيانات»، لكنها على أرض الواقع تتخذ قرارات مصيرية بناءً على الحدس أو القلق، وهو ما يتناقض مع جوهر التحول الرقمي القائم على التحليل الموضوعي. من الناحية العملية، يواجه العاملون تحديات حقيقية في تطبيق أدوار الحوكمة. ليس بسبب الرفض، بل لعدة أسباب منها غياب النماذج التشغيلية الواضحة، تداخل التعليمات من جهات متعددة، أو عدم توفر أدوات تسهل تنفيذ الأدوار. لذلك، فإن التمكين لا يقتصر على التدريب، بل يشمل أيضًا توفير أدوات رقمية حديثة، مثل أنظمة إدارة البيانات، ونماذج الأدوار الموحدة، ولوحات تحكم توضح مؤشرات الجودة والامتثال. بالمقابل، حين تُربط الحوكمة بمشاريع بيانات ذات أثر واضح -كتحسين تجربة العميل، أو رفع كفاءة العمليات، أو تقليل الأخطاء- تزداد فرص نجاح تطبيقها. في هذه الحالة، يفهم الجميع لماذا تُطبق الحوكمة، ويظهر دورها كمُيسّر للنتائج، لا كمجموعة من القيود. من المهم كذلك التمييز بين جوانب الحوكمة التي يجب أن تبدأ مبكرًا، مثل حماية البيانات الشخصية وتحديد صلاحيات الوصول، وبين عناصر يمكن تطويرها تدريجيًا، مثل تعيين مالكي البيانات، أو تحسين جودة البيانات عبر الزمن، بناءً على الدروس المستخلصة من حالات الاستخدام الواقعية. الخلاصة أن حوكمة البيانات ليست عبئًا ولا ترفًا تنظيميًا، بل هي أداة تمكينية عندما تُصمّم بذكاء. لكن تطبيقها يجب أن يراعي سياق المؤسسة، نضجها، أولوياتها، وطبيعة بياناتها. الحوكمة الناجحة لا تُفرض كشرط مسبق على التحول الرقمي، بل تُبنى بالتوازي معه، وتُطوّر لتدعم القيمة، لا لتُعطّلها. إنها مزيج من الانضباط والمرونة، تُرشد دون أن تُقيد، وتُمكّن دون أن تُربك.