بينما كانت الأطراف المعنية منشغلة بإيجاد حل للمشكلة الناجمة عن الانقلاب العسكري في النيجر في أواخر يوليو الماضي، فاجأنا العسكر في الغابون بالانقلاب على حكم الرئيس علي بونغو الذي كان يستعد للاحتفال بتنصيبه رئيسًا لولاية ثالثة بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة التي دار حولها لغط كثير وشككت المعارضة في نزاهتها. أما الأسباب التي دعت العسكر للاستيلاء على السلطة فهي كما يدّعون حماية الوطن وكرامته ومحاربة الفساد وهي مقولات طالما رددها الانقلابيون والمنقلبون عليهم وخانوها بعد ذلك بعدما استهواهم إغراء السلطة. هذه المقولات تجد صداها لدى شعوب قارة إفريقيا الفقيرة تمامًا كما الحال مع شعوب أميريكا اللاتينية في مرحلة الثورات المسلحة والتحولات السياسية والاقتصادية في نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. إنها القصة المتكررة ذاتها: الثورة وإعادة إنتاج حكم العسكر ولعبة الأمم. في البداية، تتوالى الإدانات والتنديد من الدول الغربية بدعوى الدفاع عن "الديمقراطية" وهي النسخة الممسوخة للديمقراطية الأوروبية والأميركية التي غالبًا ما تتنافس عليها أحزاب بعينها وتتوارثها فتحولت بذلك إلى ديمقراطية العالم الثالث، بل وأصبحت انقلابية ومشكوك فيها إلى حد ما كما يتضح من "المرمطة" القانونية للرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب لتشكيكه في نزاهة الانتخابات ووضع البلاد على حافة حرب أهلية. والمفارقة في الانقلابات الإفريقية هي أن الانقلابيين، لا يتعلمون من دروس الماضي ويكون مصيرهم إما القتل أو الاعتقال لأنهم يفشلون في الوفاء بالوعود التي يعلنونها ويتلاشى الدعم الشعبي لهم. لكن ما يميز الانقلابات العسكرية الأخيرة في إفريقيا هي أنها جاءت في وقت يشهد فيه العالم صراعًا قاتلاً على الموارد الناضبة بين الدول الكبرى يهدد بنهاية هذا العالم. ومن محاسن هذه الانقلابات أنها كشفت شراسة المنافسة بين الدول الاستعمارية السابقة والدول الباحثة عن فرص الاستثمار، وكذلك حجم الوجود العسكري وعدد القواعد الموجودة في كثير من الدول الإفريقية تحت مسميات شتى، ومن بينها "محاربة الإرهاب" التي يقول كثير من العارفين بأنها صناعة غربية في الأساس من أجل إشاعة عدم الاستقرار وتبرير الوجود العسكري لهذه الدول لحماية شركاتها الاحتكارية. تركزت معظم مطالبات الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على إطلاق سراح الرؤساء المنتخبين وعودة الحياة الديمقراطية، لكن الانقلابيين يدعمون مبررات انقلاباتهم بتوجيه تهم الخيانة العظمى للرؤساء الذين يتحولون إلى رهائن ومادة للمساومة السياسية. وعندما تنكشف سوءة "الرؤساء الديمقراطيين" وتنعدم سبل القضاء على الانقلابيين، تقبل الحكومات الغربية بالأمر الواقع وتبذل أقصى ما تستطيع لبسط نفوذها عليهم، وهكذ ندخل في دوامة لا نهاية لها من لعبة الأمم. وبالتأكيد أن الدول الغربية تعرف من خلال جواسيسها وعملائها وتقارير سفرائها حقيقة الأوضاع على أرض الواقع ومدى استشراء فساد الرؤساء "المنتخبين ديمقراطيًا" الذين يتحولون إلى مستبدين ورؤساء مدى الحياة وبدعم من الدول الغربية طالما ظلوا يخدمون مصالح هذه الدول ولو على حساب إفقار شعوبهم. وربما كانت تعرف ولكنها كانت منشغلة بمآلات الحرب في أوكرانيا. لقد وضع انقلاب النيجر منظمة الإكواس والحكومة النيجيرية تحديدًا في مأزق حرج، فلا هي استطاعت حل المشكلة بالطرق الدبلوماسية كما لم تقدم على حلها عسكريًا على الرغم من أن هذا الحل لا يزال مطروحًا مع ما يحمله من تكلفة بشرية واقتصادية واجتماعية باهظة سوف تمتد آثارها لعقود قادمة. في حالة انقلاب الغابون، لا يحمل معظم المراقبين تعاطفًا كثيرًا مع الرئيس المخلوع علي بونغو وعائلته والتي حكمت البلاد منذ عام 1967 وكان يتوقع أن يورث علي بونغو الحكم لأحد أبنائه. وما نعرفه عن الرئيس الغابوني هو أنه ولد باسم ألان برنار بونغو في الكونغو برازافيل المجاورة لبلاده في فبراير عام 1959، وفي عام 1973 أصبح ألان عليًا بعد اعتناقه ووالده عمر للإسلام. بعدما أعاد الانقلابيون خدمة الإنترنت التي كانت حكومته قد قطعتها عشية الإعلان عن نتائج الانتخابات، وجّه الرئيس الغابوني رسالة استغاثة لأصدقائه وطلب منهم أن "يُحدثوا ضجيجًا" لتأمين الإفراج عنه، لكنه لم يحظَ بالاهتمام الذي لقيه رئيس النيجر محمد بازوم. لقد رفع المتظاهرون في النيجر علم روسيا التي قالت إنها تراقب الوضع في الغابون بقلق، بينما طالبت الصين، التي يقال إن أحد خبرائها كان يعمل مستشارًا للرئيس، بعودة الوضع إلى طبيعته فورًا، وأدان الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي هذا الانقلاب الذي ربما يفتح الباب أمام مزيد من الانقلابات العسكرية في القارة السوداء ويؤدي إلى تشكيل تكتل للانقلابيين فيها. في كل الأحوال، يجمع المراقبون لما يجري على أن هذه الانقلابات تمثل ضربة للهيبة والوجود العسكري الفرنسي في المستعمرات السابقة، وقد يدفع الرئيس أيمانويل ماكرون ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا باهظًا لاستمراره في سياسة الاستعلاء وعدم الإسهام الحقيقي في تطوير هذه الدول وتحسين الظروف المعيشية لشعوبها. لكن ما نخشاه هو أن الرئيس الفرنسي يتلقى ضربات تحت الحزام ليس من الانقلابيين فحسب وإنما من الحلفاء وخاصة من الولاياتالمتحدة التي لم تغفر له بعض المواقف والسياسات وخاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتسليحها، ودعوته لاستقلالية القرار الأوروبي عن القرار الأميركي والخلاف حول صفقة الغواصات لأستراليا. وربما لهذا السبب عارضت الإدارة الأميركية التنسيق الفرنسي مع منظمة الإيكواس للقيام بعمل عسكري ضد الانقلابيين في النيجر التي ستستخدمها الولاياتالمتحدة لمواجهة الوجود الروسي والصيني ومنظمة بريكس ولتوسيع منطقة نفوذها في القارة التي نسيتها لعقود طويلة ثم تذكرتها فجأة!