وافق يومُ السابع والعشرين من شهر أبريل "اليومَ العربي للشمول المالي" الذي أقره مجلس محافظي المصارف المركزية في عام ( 2016م)، بهدف تعزيز ثقافة دعم الشمول المالي والتعريف بأهميته، ويعد هذا الموضوع بلا ريب؛ ركيزةٌ أساسية ودائمة في تشكيل سياسات التنمية البشرية والاقتصادية على المستوى العالمي، حيث يترتب على تمتع الأفراد والمنشآت بحسابات بنكية استفادتهم من طيف واسع من الخدمات المالية الأساسية كالائتمان بمختلف صوره وأغراضه، والتأمين، والادخار، والتحويلات المالية - داخل الوطن أو العابرة للحدود - من خلال التقنية المالية التي لا تنفك عجلتها من التقدم المطرد والمتسارع، وهذه القضية جوهرية في خدمتها للاقتصاد الكلي للدول كأداة مُساعدة في تحقيق الاستقرار المالي، وصيانة معايير العدالة الاجتماعية، وترسيخ أُسُس الشفافية بين المتعاملين. ويؤدي إيجاد بيئة رصينة ومتفاعلة للشمول المالي، إلى تيسير التعاملات المالية اليومية للمواطنين، وتعظيم فرصهم بالحصول على جودة مُلائمة من خدمات المرافق العامة، وتسهم في تسهيل فتح وإنشاء الأنشطة التجارية والاقتصادية متناهية الصغر، وتشكل درع حماية مرن ضد الصدمات المالية العارضة، أو الجوائح المتنقلة؛ كما شهدناها مؤخرا في جائحة كورونا التي أعادت تعريف نماذج العمل، وأثرت بشكل عنيف في بداية نشأتها على خطوط الإمداد العالمي ممثلة تحديًا لكبار المنتجين، والمصنعين، والمستوردين، وفي ذات الوقت خالقة فرصة مواتية للاقتصادات المحلية وصغار مزاولي الأعمال - خصوصًا الحرفيين المهرة - وحاضنات الإنتاج المحلية في توسيع تجارتهم البينية. على الصعيد الوطني، ساهمت الجهود المتسقة والمنتظمة في ضوء رؤية 2030 الرامية للتنمية الشاملة، في إرساء قواعد الحكومة الرقمية وتوسيع البنية التحتية للإنترنت وضمان توافره، وأصبح قطاع عريض من المواطنين يعتمدون على التقنية بشكل أساسي في إدارة شؤونهم ومزاولة أعمالهم، حيث ارتفعت نسبة انتشار استخدام الإنترنت في المملكة من 94.3 % في عام (2017م) إلى 98.1 % في نهاية عام (2021م)، واحتلت المرتبة السابعة عالميًا في متوسط سرعة الإنترنت المتنقل (حسب تقارير هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات بنهاية العام ذاته). هذا الجهد توافقه إطلاق تشريعات داعمة من قبل البنك المركزي السعودي لتسهيل إجراءات فتح الحسابات البنكية عبر إصدار "التعرفة البنكية" التي نظّمت رسوم هذه الخدمات وقيّدتها، كما أتاحت فتح الحسابات المصرفية إلكترونيًا، بالإضافة إلى تأسيس بيئة تجريبية تنظيمية (Sandbox) لتحفيز بنية المدفوعات البنكية الرقمية، والتقنيات المالية، والتي نجم عنها توسيع التعاملات الرقمية عبر تطبيقات الهاتف، ونقاط البيع الرقمية التي نمت عملياتها بواقع 18 % خلال عام (2022م) مقارنة بالعام (2021م) لتشكل 45.2 % من حجم التعاملات المالية، وقد صيغت خطة طموحه بالوصول بها إلى 70 % من حجم التعاملات المالية بحلول عام (2025م) ضمن مستهدفات برنامج تطوير القطاع المالي. تطوير القطاع المالي. أفضت هذه التسهيلات، والجهود الوطنية المتراصّة إلى تسجيل نمو متصاعد في الشمول المالي بمختلف مكوناته؛ لتصل نسبة البالغين في المملكة فوق 15 عام الذين يمتلكون حسابات بنكية نشطة، وفريدة 85 % بنهاية عام (2021م) بزيادة قدرها 18 % عن عام (2017م). وتعد أنشطة التمويل الحكومي التنموي أحد محاور دعم الشمول المالي حول العالم، ويتضح ذلك من خلال النظر إلى جهود المؤسسات المالية التنموية المعنية بتقديم قروض ميسرة وصبورة لتحفيز التنمية الاقتصادية لفئات اجتماعية محددة غير مخدومة، أو مناطق واعدة، عدى عن رعاية قطاعات وصناعات متخصصة لديها ميزة نسبية. وفي سياق التمويل الحكومي الوطني يبرز بنك التنمية الاجتماعية كمثال متجذر ومتماسك على تناغم رسم الأهداف الوطنية مع احتياجات المواطنين خصوصًا ذوي الدخل المحدود، ولديه تجربة رائدة على المستوى الإقليمي كمؤسسة للتمويل متناهي الصغر تعزز وصول الأفراد، والمنشآت الناشئة لخدمات الاقتراض، وتعنى بشمولهم الاجتماعي والمالي، وذلك من خلال إرثه الممتد إلى 50 عاما من التمكين ليبلغ عدد المستفيدين المباشرين من برامجه - منذ تأسيسه - 3.2 ملايين مواطن امتدت منفعته الاقتصادية إلى 9 ملايين من ذويهم وأسرهم التابعين لهم، استفادوا من دعم مالي إقراضي يفوق 140 مليار ريال. وتناغُمًا مع استراتيجيته التحولية والتحديثية يُشرف البنك في الوقت الحاضر على إدارة محفظة تمويل تنموية قدرها 21 مليار ريال "مؤمنة" ضد الوفيات والعجز الكلي الدائم، يستفيد منها 650 ألف مواطن لديهم حسابات نشطه. وخلال العام المنصرم (2022م)، بلغ حجم المشمولين من الخدمات المالية 157 ألف مواطن و9 آلاف مُنشأة بإجمالي اعتمادات تمويلية تبلغ 13.8 مليار ريال، تركز هذا الدعم في جوهره على تمويل الفئات الأقل حظًا من المواطنين، ومزاولي الأعمال الحرة، والمبتدئين من أصحاب المنشآت الصغيرة والناشئة التي يوفر لها البنك حزمة متكاملة من خدمات الدعم، والاحتضان؛ بهدف بناء أول علاقة ائتمانية لها، وتجسيرها نحو الاقتصاد الرسمي. وكان لمشاركة العنصر النسائي في صناعة الاقتصاد المحلي التشاركي نصيب وافر من برامج البنك الموجهة لتمكين النساء من الوصول للتمويل، تجسد بتخصيص مساراً خاصًا في عام (2016م) لتمويل الأسر المنتجة عبر نموذج التمويل الأصغر التشاركي مع جمعيات القطاع غير الربحي، وقد وصلت التغطية في هذا البرنامج لأكثر من 161 ألف سيدة محترفة بحجم تمويل 2.5 مليار ريال، ولعل من المناسب في هذا السياق إيراد تجربة (جمعية الأنامل المبدعة للحرف والمهن في منطقة جيزان، إحدى الجمعيات المدعومة من البنك) كنموذج بارز في سرعة الاستجابة، والمرونة التشغيلية بتحويل خط الإنتاج المتخصص في صناعة الأثاث ومستلزمات المنازل والذي يدار حصريا من قبل سيدات عاملات - إلى المساهمة بشكل فعال في سد الطلب المحلي المتصاعد وغير المتوقع على كمامات الحماية ضد انتقال العدوى في إبان اندلاع جائحة كورونا بإنتاج ما يربو على 250 ألف كمامة خلال الأشهر الأولى. وفي جانب التقنيات والحلول المالية، فبالإضافة إلى ما يتيحه البنك من منافذ تسويقية ميدانية في أماكن الأنشطة الاقتصادية من أسواق تجارية، وبازارات داخل المملكة وخارجها لمزاولي نشاطات البيع متناهية الصغر كجزء من مهمته بالمساعدة في تسويق منتجاتهم، وإنفاذها للمستهلكين، والوصول بها للتنافسية؛ عمد البنك إلى توفير أجهزة نقاط بيع لمزاولي هذه النشاطات التجارية الصغيرة بالتشارك مع 4 من مزودي خدمات نقاط البيع الرقمية المرخصين، مع التركيز على تسريع التسويات المالية نظراً لاعتماد هذه النشاطات البيعية على توافر النقد الدوّار، ويبرز بين مزودي خدمات نقاط البيع المذكورة "شركة مرن" وهي حل تقني ريادي تم تمويله من البنك كمؤسسة ناشئة في عام (2014م) ليستمر في النمو عبر استيفاء اشتراطات الترخيص من الجهات المختصة، ويصبح من كبار اللاعبين في هذا المجال لاحقًا. وكان للادخار ونشر الثقافة المالية مكانًا خاصًا ضمن التفكير التنموي التقدمي للبنك في ضوء نظرية التغيير (Theory of Change)، فبالرغم من أن بداية شروع البنك في تقديم منتجاته الادخارية الاختيارية للشريحة ذات الدخل أقل من 10 آلاف ريال شهريا في عام (2019م)، إلا أن هذه التجربة الاجتماعية النوعية بينت بشكل ساطع أن تحفيز العادات السلوكية الإيجابية حتى لهذه الفئات مُجزي ونافع، اقتصاديًا واجتماعيًا، وأنتجت هذه العملية إنشاء أكثر من147 ألف حساب ادخاري جديد بلغت حجم المدخرات فيه 345 مليون ريال بنهاية عام (2022م)، وهي أرقام ممتازة بالنظر إلى عدد حسابات الادخار المسجلة في البنوك المحلية، تلا هذه التجربة في عام (2021م) تقديم منتج ادخاري للنشء بين الأعمار 8-16 سنة، قائم على نموذج رقمي بالكامل، وتحت إشراف الوالدين، والتي تشير باكورة نتائجه إلى أرقام مبشرة. أخيرًا، وعبر بوصلة توجهاته الطموحة سيستمر البنك تحت إشراف صندوق التنمية الوطني بالتناغم مع صناديق وبنوك التنمية الوطنية الأخرى في دعم توسيع الاقتصاد، وتعميق أثر التدخلات الحكومية الإنمائية تمشيًا مع أولويات رؤية 2030.