في ظل التوترات الحالية بين روسيا والغرب بسبب الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا والمخاوف من غزو روسي محتمل، والتلويح الأمريكي والأوروبي بعقوبات صارمة على موسكو، تبرز أهمية نزع فتيل التوتر وإنهاء الحرب الباردة الراهنة لما لها من عواقب وخيمة على الأمن والسلم الدوليين. وفي هذا الإطار، قال روبرت ليجفولد أستاذ العلوم السياسية الفخري بجامعة كولومبياالأمريكية في تقرير نشرته مجلة "ناشونال انترست" الأمريكية إن محاولة الوصول إلى مكان ما تكون صعبة عندما تجهل المكان الذي توجد فيه. يبدو أن هذا هو الوضع بالنسبة لمقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" ألمح إلى أن مهمة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمساعدة أوكرانيا في المقاومة إذا قامت روسيا بغزوها "أحيت شبح حرب باردة جديدة". إن الولاياتالمتحدةوروسيا في الواقع في حالة حرب باردة جديدة طوال ثمانية أعوام، منذ أن تسببت الأزمة الأوكرانية عام 2014 في خروج العلاقة بين البلدين عن مسارها. وأكد ليجفولد أن المهمة ليست كيفية تجنب حرب باردة، ولكن كيفية إيجاد طريق الخروج منها. وإذا لم تفهم وسائل الإعلام، والأكثر أهمية إذا لم يفهم صانعو السياسة الأمريكيون ذلك، وإذا لم يعرفوا مكانهم، فإن فرصة تصحيح السياسة ضئيلة. وأوضح أن الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي التي استمرت نصف قرن، وخاصة في أعوامها الأولى، كانت لها سمات ميزتها عن غيرها من علاقات الخصومة العادية. فقد كان الدافع وراء تلك الحلاب عداء أيديولوجي عميق. لقد حارب الجانبان من أجل رؤية مختلفة تماما للنظام السياسي والاقتصادي الذي كانا يريدانه داخل مجتمعيهما. والأمر الثاني الذي جعل الحرب الباردة تتسم بالاختلاف هو أن كل جانب حمل الجانب الآخر المسؤولية عن حالة العداء الشديد في العلاقات. فلم يكن هناك مجال لتأمل النفس أو تقييم الذات ولم تكن هناك رغبة في دراسة الكيفية التي اسهمت فيها الأفعال التي قام بها كل جانب بنفسه في الوصول إلى هذه النتيجة. ورأى ليجفولد أن الأمر الثالث، هو أن كلا الجانبين افترضا أن المشكلة ظهرت ليس بسبب التفاعل بين البلدين، ولكن بسبب طبيعة الجانب الآخر. لقد كان جوهر المشكلة هو جوهر العداء. إن محور النزاع لم يكن صراع مصالح ولكن تعارض الهدف. وهكذا فإن الأمر الرابع هو أن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا إذا تحول الجانب الآخر إلى شيء مختلف أو، على أقل تقدير، قام بتغيير قوة الدفع الرئيسية لسياسته الخارجية. وهذه هي طبيعة العلاقات بين الولاياتالمتحدةوروسيا اليوم، وربما يقول البعض، إنهما بدون "عداء أيديولوجي". ومع ذلك، فإن دفاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشديد عن القيم المحافظة لروسيا ضد الليبرالية الغربية، التي يزعم أنها جافة وفاسدة أخلاقيا، ورؤية الرئيس جو بايدن أن العالم محصور في صراع بين الاستبداد والديمقراطية، يقدمان بديلا كافيا للعداء الايديولوجي الذي ظهر خلال فترة الحرب الباردة. وقال ليجفولد إنه حتى السمتين الرئيسيتين اللتين كانتا تجعلان الحرب الباردة الجديدة الأمريكية الروسية تختلف عن الحرب الباردة الأولى تتلاشيان حاليا. فمنذ عام 1949 وحتى نهاية الحرب تقريبا، كانت المواجهة تحت ظل حرب نووية مدمرة. والآن الأزمة بشأن أوكرانيا تقترب من نفس المصير. إن الحرب الباردة الأمريكية الروسية لن تشمل، كما فعلت الحرب الباردة الأولى، النظام السياسي الدولي بأكمله، ولكن إذا اندمجت مع الاندفاع صوب حرب باردة أخرى مع الصين، فعندئذ يمكن أن تشمل النظام الدولي بأكلمه. ودعا ليجفولد إلى تسمية الأشياء بمسمياتها، كما يقول المثل الروسي، عندئذ يمكن للمرء أن تكون لديه فرصة ليرى كيف يمكن أن تدمر العواقب الوخيمة للحرب الباردة القدرة على التقييم بشكل دقيق لما هو على المحك وإعادة التفكير في طبيعة التحديات الأمنية، مثل التحدي الحالي بشأن أوكرانيا. لسوء الحظ، إنه في أوقات مثل هذه، عندما تتركز الأفكار على شيء واحد فقط، يكون الضرر عظيم- عندما يتم إغفال حقائق واضحة، مثل الحقائق التي تم تعلمها في نهاية الحرب الباردة الماضية. وتعتبر الحقيقة الأكثر أهمية من بين هذه الحقائق هي أن الأمن القومي لا يمكن تأمينه وتحقيقه بأمان إلا من خلال الأمن المشترك. ليس من خلال الاستعداد للحرب في الجبهة الجديدة المركزية في أوروبا، ولكن من خلال العودة إلى الحد من التسلح وإجراءات بناء الثقة ومن خلال قبول غلق حلف شمال الأطلسي (الناتو) أمام مزيد من التوسع، وتوقف روسيا عن الترهيب العسكري. واختتم ليجفولد تقريره بمجلة ناشونال انترست، بالقول إنه يتعين على الدبلوماسيين التخلص من إطار العمل الذي يكبل في الوقت الحالي محادثاتهم وأن يقوموا بمناقشة مسار يؤدي إلى هذا الاتجاه. وعندئذ، ربما يتمكنوا من التركيز على التحديات الوجودية الحقيقية التي تواجههم بطريقة تمنعها حربهم الباردة الحالية: وهذه التحديات هي عالم نووي معقد ومتعدد الأقطاب يفقدون السيطرة عليه، والتداعيات المدمرة لتغير المناخ، خاصة في القطب الشمالي، وجائحة صحية ضخمة في المستقبل أخطر كثيرا من الجائحة الراهنة، والاندفاع صوب حربين باردتين متداخلتين، أمريكية روسية وأمريكية صينية، في عالم جديد ثنائي القطب. لقد مر نصف قرن شهد العديد من الحوادث التي كانت وشيكة الوقوع، من أجل إنهاء الحرب الباردة الماضية. لنأمل في أن ينهي المسؤولون هذه الحرب في وقت قريب دون التعرض لحوادث تكون وشيكة الوقوع.