من منظور "خ. ل. بورخيص" التقديم: كتب "خورخي لويس بورخيص" هذا النص - الذي لم يسبق نقله إلى العربية - سنة 1933، معلنا عن بداية اهتمامه بهذا النوع الأدبي الذي كان، وربما لا يزال في بعض الأوساط، يُنظر إليه بوصفه أدبا من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة. وتكمن أهميته في أنه من المحاولات القليلة التي جرّد فيها "بورخيص" قلمه للتنظير لنوع أدبي مخصوص وتحديد أسسه وقوانينه، محاولا اقتراح نمذجة أولية بالاعتماد على متن حكائي بوليسي متعدد المشارب، نجد فيه نصوصا أمريكية، وثانية أرجنتينية، وثالثة بريطانية، ورابعة يونانية وغيرها، ومن فترات زمنية متعددة. كما أنه لم يقتصر في تنظيره على جنس الرواية فقط، بل وسع حديثه ليشمل القصة والفيلم وغيرهما؛ ومن هنا اختيار مفردة "محكي" في عنوان المقال عوض حكاية أو رواية. وعلى العموم، تبقى هذه المحاولة خطوة مهمة وأساسية في سياق التنظير لهذا النوع الأدبي، تنضاف إلى محاولات لاحقة متعددة، لعل أبرزها ما قام به "تزفيتان تودوروف" في كتابه شعرية النثر (فصل بعنوان نمذجة الرواية البوليسية)، و"جوليان سيمونز" في كتابه القصة البوليسية. نص التعريب: لطالما كان الأدب الإنجليزي فريسة لشغفين متضاربين في طبيعتهما؛ فمن ناحية يحمل هوسا غريبا بالمغامرات، ومن ناحية ثانية يميل بشكل مثير نحو التركيز على الشرعية وقوة القانون. وهو أمر غريب بالنسبة إلى أمريكي لاتيني. من هذا المنطلق، سيعرب كل من "مارتن فييرو" (بطل رواية يحمل عنوانها نفس الاسم للكاتب الأرجنتيني خوسيه هرنانديز) - بعد أن فر من الجندية وأصبح خارج القانون، وفي نفس الآن محاربا لتناقضات مجتمعه واختلالاته - وكذا رفيق دربه "كروز" - بعد أن هرب من الشرطة - (سيُعْرِبَان) عن دهشة لا تخلو من السّباب والضحك إزاء النظرية البريطانية (والأمريكية الشمالية) التي تؤكد بشكل قاطع أن العقلانية تقوم على احترام القانون، بَيْد أنهما لن يُبِيحَا لنفسيْهما تخيُّل أن قدرهما البائس بوصفهما خارجين عن القانون يمكن أن يكون مهما أو أن يُحسدا عليه. لقد كان القتل بالنسبة إلى أمريكي لاتيني حادثا مؤسفا؛ لقد كان نكسة للإنسان الذي لم يمنح نفسه قيمة مثلما لم يجردها منها. يُشبَع هذان الشغفان - هوس المغامرات الجسدية، والميل إلى شرعية حقودة - في المحكي البوليسي المعاصر. ونموذجه في السلسلات القديمة، والكتيبات الحالية حول شخصية "نيك كارتر" الشهيرة التي أبدعها الصحفي الأمريكي جون كوريل معتمدا على آلة كاتبة، واصلا الليل بالنهار؛ بحيث كان ينتج أكثر من سبعين ألف كلمة شهريا. ويبدو أنه من الضروري أن نؤكد أن المحكي البوليسي يزدري في نفس الآن كُلّا من المغامرات المحسوسة والعدالة الانتقائية. فهو يتفادى بكل هدوء الزنزانات، والسلالم السرية، والشعور بالندم، ورياضة الجمباز، واللحي المستعارة، والمسايفة، والوطاويط... وحتى الصدفة. وفي النماذج الأولى لهذا النوع الأدبي (لغز ماري روجيه لإدغار ألان بو/ 1842)، وفي نموذج من النماذج الأخيرة المعاصرة (Unravelled Knots للبارونة أورتشي/ 1926) [لا ننسى أن المقال كُتب سنة 1933] تقتصر القصة على النقاش وعلى الحل التجريدي لجريمة وقعت ربما على بعد مسافة كبيرة من مكان أحداث المحكي، أو ربما حدثت منذ زمن بعيد. لذلك ستتحول، هنا في هذا السياق، المقاطع الإجبارية المتعلقة بالتحقيق الجنائي - البصمات، والألم، والوشاية - إلى أخطاء غير مقبولة. وهكذا، يبدو أن المحكي البوليسي من المفروض أن يستجيب للقوانين التالية: التقليل العقلاني من عدد الشخصيات: ذلك أن المخاطرة بخرق هذا الشرط ستُسْقِط المتلقي في الإبهام والملل. فلو أخذنا بعض الأفلام البوليسية التي تقدم، على سبيل المثال، خمس عشْرة شخصية، ثم نكتشف في النهاية أن الشرير (مرتكب الجرم) ليس هو (أ) الذي يسترق النظر من ثقب مفتاح الباب، ولا (ب) الذي أخفى النقود، ولا حتى المسكين (ج) الذي لا ينفك ينتحب في مختلف أرجاء بهو [المبنى]؛ بل هو (د)، الفتى السخيف الذي لم نميزه عن (ه)، والذي يشبه كثيرا (و). إن الدهشة التي تثيرها هذه المعلومة في أذهان المتلقين تكون في العادة متواضعة؛ عرض جميع حيثيات المشكلة: إذا كانت ذاكرتي تسعفني، فإن الخرق المتفاوت لهذا القانون هو النقيصة المفضلة لدى آرثر كونان دويل. ذلك أن الأمر يتعلق أحيانا ببضع ذرات من الرماد يجمعها "شيرلوك هولمز"، دون أن يُحاط القارئ علما بذلك، ويتصادف أن هذا الرماد لا يمكن أن يكون ناتجا إلا عن نوع مخصوص من أنواع السيجار ذي الأصل البِرْماني، والذي لا يباع إلا في محل تجاري معين، يتصادف أنه لا يقدمه إلا إلى زبون بعينه. بل إن إخفاء المعطيات المتعلقة بالجريمة المحقق فيها كان فيما مضى مبالغا فيه بشكل يُفقد العمل قيمته ومصداقيته؛ حيث يكون الجاني الذي يُلقَى عليه القبض في آخر لحظة من لحظات الحكي شخصية مجهولة لم يسبق ذكرها في المحكي منذ بدايته. ومن ثمَّ فإن المحكي البوليسي الذي يحترم نفسه هو الذي يجعل الجاني شخصية من الشخصيات التي يكون لها حضور في السرد منذ البداية. الاقتصاد الصارم في الآليات السردية: قد يكون من الجيد والممتع معا أن نكتشف في نهاية المحكي البوليسي أن شخصيتين اثنتين لم تكونا في الحقيقة سوى شخصية واحدة، شريطة ألا تكون وسيلة الإخفاء لحية مستعارة أو لهجة أجنبية ما، بل إن الصنعة تكمن في ربط التمويه بظروف معينة وبشخصيات مختلفة. وفي الحالة المعاكسة، إذا كنا أمام شخصيتين تفبركان شخصية ثالثة بشكل يتيح لهما الحضور في كل مكان، فإن السارد يخاطر - لا شك في هذا - بأن يجعل محكيه ثقيلا ومملا. أسبقية الكيف على الفاعل: إن الذين يصرون على الإسهاب في الكلام المنمق [غير المفيد لحبكة المحكي] سيتضاعف عددهم في قصة تحكي عن حِلية وضعت في متناول خمس عشْرة شخصية، ثم اختفت فجأة بسبب خفة يد أحدهم. فهم يظنون أنهم بتخمينهم لشخصية السارق إنما يقومون بعمل من الأهمية بمكان؛ والحال أن طريقة السرقة وحيثياتها تسبق من حيث الأهمية. احتشام الموت: استطاع هوميروس أن يخبرنا أن سيفا بتر يد "هيبسينور"، التي سقطت أرضا مضرجة بالدماء؛ بحيث لم تعد عيناه تريان سوى الموت ومصيره المظلم. في المحكي البوليسي، لا يتم الاحتفاء بنافورات الدم، بل إن العناية تولى للنظام، والخدع، وأمور النظافة... ضرورة الحل وجاذبيته: أما "ضرورة" الحل فتقوم على أن المشكل يجب أن يكون محددا؛ بحيث يكون له حل واحد، وأما "جاذبيته" فتتأسس على أهمية إبهار المتلقي، دون اللجوء - طبعا - إلى توظيف أمور ماورائية مخالفة للواقع؛ وهو ما يؤشر في المحكي البوليسي في حال وجودها على الكسل والخيانة (خيانة المتلقي). كما يجب أن يبتعد الحل عن أمور التنويم المغناطيسي، والهلوسات التخاطرية، والتكهنات المستقبلية، والإكسيرات مجهولة الوصفات، وكذا التعويذات. لقد كان الأديب الإنجليزي تشيسترتون ألمعيا في مزاوجته بين الأمرين؛ أي أنه يقدم في البداية تفسيرا غير واقعي للقضية، قبل أن يُفاجئ بعد ذلك - بحرفية بالغة لا تقدح البتة في عمله - بتفسير واقعي ومنطقي. لا مِراء في أنني لست من أولئك الذين يزدرون بشكل غريب الحبكات الغامضة، بل إنني - على العكس تماما - مقتنع أن إعداد عناصر جريمة قتل أو سرقة مزدوجة، وتهييئ حَلَّيْهِما، حتى وإن كان متواضعا، يحمل قدرا من الإجهاد الفكري يفوق ذاك الذي نجده في النظم التقليدي لسوناتة متكاملة (شكل شعري يتكون من أربعة عشَر بيتا)، أو في صياغة حوار ثقيل ومزعج بين مجموعة من العاطلين الذين يحملون أسماء يونانية، أو في كتابة قصيدة مستوحاة من فكر كارل ماركس، أو إعداد دراسات كئيبة حول مئوية غوته، أو مشاكل المرأة، أو العلاقة بين الشرق والغرب، أو لا إنسانية الفن وغيرها. * أستاذ اللغة العربية.. المغرب خورخي لويس بورخيص تودوروف