ورقة تم تقديمها في ملتقى القراءة بمركز عبدالرحمن السديري في محافظة الغاط "بدايات وما قيل عنها" للكاتب والأديب السعودي محمد بن عبد الرزاق القشعمي؛ يقع الكتاب بنحو (293) صفحة، ويستعرض إحدى وثلاثين أقصوصة واقعية بعيدة عن نسج الخيال، حيث يرويها الكاتب بين ثنايا السطور عن طفولته التي عاشها في مسقط رأسه في قرية "المعقرة" شمال محافظة الزلفي بحلوها ومرها، شوقها وتعاستها، جمالها وبشاعتها، حبها وكرهها، كما ازدان اللقاء بمداخلات أعضاء وضيوف الملتقى وتعليق المؤلف عليها. ما أجمل اللحظات الصعبة التي يمر بها الفرد حينما تصبح ذكريات جميلة! فالشدائد والمصاعب تبقى عالقة في ألبوم الذكريات، فهي التي تغذي الروح والجسد معاً بالتحديات للتبلور إلى نجاحات مع تقادم العمر، كما أن الشدائد والمصاعب والعقبات تصقل الشخصيات، وما أجمل القامات والمفكرين والأدباء والعلماء الذين ولدوا من رحم المعاناة! يذكرني هذا الكتاب بالجو العام لكتاب المرحوم عبدالرحمن بن صالح الشبيلي "مشيناها.. حكايات ذات" حيث عرض من خلاله ذكريات طفولته في مدينة عنيزة، وسيرة حياة لنحو 80 عاماً مضت، وأنا أتسلسل بين ثنايا صفحات كتاب صاحبنا "بدايات" كنت أتأمل المشاهد التي مر بها الفتى حلقة تلو الأخرى، فأقول تارة لو تم ربطها ببعض الأساليب الفنية والأدبية لحصلنا على رواية من نسج الواقع تحت عنوان "الأمل القادم من الشمال"، وتارة أخرى أقول إنها تصلح لعمل مسلسل درامي يشتمل على إحدى وثلاثين حلقة تلفزيونية. لقد عمد الكاتب إلى استخدام أسلوب السرد القصصي الصريح بما حدي به ذاك الزمان من المواقف المؤلمة والظروف القاسية التي عاشها، حيث يقصنا إياها ليروي ظمأ مشاعره وطفولته التي سلبت منه لسبب أو لآخر، لقد امتاز الكاتب بذكائه الاجتماعي لتذكره مواقف وشواهد مرت على هامش ذكرياته في وقت مبكر من عمره عندما جر اليراع بأنامله وبدأ بتغذيته بحبر البدايات المحفوفة بالمعاناة والمخاطر، وهذا يتضح لنا جلياً من خلال الكثير من الشواهد والشخوص التي كانت حاضرة في كل أقصوصة. لقد عايش الفتى التراث والتاريخ ورافق آثاره، وسجل مآثره من الضياع، فلم تصرفه الحياة المعاصرة بزخمها وتفوقها وتطورها وصراعاتها المثيرة وتقنياتها المتعددة عن الحنين إلى عهد الراحلة والطاية والريوق والهجور والكتُاب والمسحاة ومص الأتول وغيرها من الموروث الثقافي، فكانت رحلته مع القلم صورة مؤصلة لنفسية فارس طموح وملهم كان لعبق الصحراء أثراً في نفسه ومنزلة حاضرة في وجدانه، وهذا يتأتى لنا من خلال الدلالات اللغوية والعادات والتقاليد التي ما زالت عالقة في ذهنه. لقد عمد الكاتب بأسلوبه الروائي الماتع وبروز شخصيته لعرض القصص بطريقة مشوقة لتداخل الزمان والمكان وتبعثر الأحداث وتخريج الأقاصيص بصورة ممتعة، فكان يضحكنا قليلاً ويبكينا كثيراً، ويأخذنا من قرية وجبل ويعود بنا إلى صحراء مقفرة، ويرمي بنا من مجهول إلى معلوم، ويبتعد عن أسلوب السرد قليلاً حتى لا يغلب على أقاصيصه طابع الملل. يتجلى للقارئ أن الكاتب قام بتصوير بعض من الصور الدينية والاجتماعية المغلوطة والتي كانت تحاك أو تمارس آنذاك بهدف تجسيد الواقع. أما عن فضل الأم فهو ذو شجون، فله لوعة في القلب، ومرارة في الفم، وحرقة في الصدر، وطراوة على اللسان، تاركة بسمة كاذبة هادئة على الشفاه، ودمعتين على الوجنتين. كيف لا؟ عندما يتذكر المعاناة التي قضتها مع صبيتها في منطقة نائية بعيداً عن جناح زوجها، فكانت المربية والمعلمة والحامية لقضايا وهموم أسرتها مع مجتمعهم المحيط. أمين بني عامر وتكريم خلال الأمسية