الحركات الثقافية والمناهج الفكرية والفلسفية تلعب دوراً مهماً في توجيه الفكر الاجتماعي والسياسي، وينتج عنها تلك الغربة الفردية التي بدأت تبحث عن أعشاش فكرية جديدة لها، فالماضي - أو قُل التراث - لم يعد مصدر ثقة أياً كان جنسه أو نوعه، وأياً كان قائله أو مدونه، وفي أي حقبة زمنية كان.. الهوية هي تلك القسائم والتفاصيل الدقيقة التي تتشكل منها الشخصية بحسب ما لها من ديالكتية التأثير والأثر، ولذا نجد حرص الأمم على تراثها لأنه امتداد لهذه الحضارة أو تلك، وشريان دافق في تقاسيم ملامح الذوات الحاملة لذلك الإرث الذي يسمى بالتراث. والتراث له تنوعاته سواء كان ماديا أو غير مادي، فجميعها تعزف على وتر الشخصية ذاتها، ذلك لأنه دون غيره ذلك الجين الكامن في تكوينها الراسم لملامحها بشكل عام. ولأننا في هذه الحقبة من الزمن نلاحظ توجهات كثيرة تنحو لطمس هذا التراث بالتشكيك فيه بقصد إزاحته في ظل مطالبة العالم بخشصية واحدة تنتمي للعالم ولا تنتمي إلى هوية أو عرقية أو قومية وهي أحد مقاصد العولمة وإحدى ركائزها المهمة. ومن هنا نجد أنها ربما تكون استجابة عفوية وبدون وعي، من هؤلاء الأفراد في مجتمعاتنا العربية التي وصل بها الحد إلى التشكيك في كل شيء؛ هذا التشكيك يطال جل الموروثات التي ترتكز عليها الحضارة العربية إن لم تكن جميعها، وذلك أمر مدمر لتكوين الشخصية والهُّوية على كل مستوياتها، العقائدية، الإبداعية، الأدبية، وحتى الأخلاقية! وعلى أي حال فإن هذا التأثر لم يأتِ من فراغ، بل كان نتاج حركات فكرية مسطَّرة ومنظَّرا لها بهندسة معمارية معرفية محكمة الركائز، تعرف كيف يكون التسرب إلى الوجدان حتى تعتمل في ثنيات التفكير حتى رست قواربه على شاطئيها. فمنذ أن كتب رونالد بارت مقاله (موت الموت المؤلف 1967) والذي كان القصد منه عدم إقحام سيرة المؤلف على الأعمال الإبداعية وكان يدعو فيها إلى تعدد القراءات الحرة في كل زمان ومكان وهو منهج نقدي يعتقد البعض أنه لا يعدو سوى تجوال بين ردهات الكتب، كما أنه كان يدعو إلى إزاحة السلطة على النص، وهي بذرة أولى لكل المنادين بإزاحة أي سلطة كانت. حتى أن جاءت التفكيكية وبدون أي إشارة إلى مقال بارت متخذين مبدأ هدم التراث قاعدة أساسية، باعتباره (اختلافا مرجئا) وباعتباره مجرد كلام إذ يمكننا هدمه من أجل إعادة صياغته، ف"وجون ناثان، وجاك دريدا، وفوكو وغيرهم ممن نظروا لما بعد البنائية "التفكيكية" اعتبروا أن النص ما هو إلا كتابة كما يأتي في المنزلة الأدنى بالنسبة للناقد أو القارئ وهي خطوة ثانية لفكر إزاحة السلطة، فيقول ميشيل رايان: "حين نحدد معنى النص أو حقيقته بالقصد الواعي، لا يؤدي ذلك إلى تعميم المناطق الحدية التي عندها يتسلل داخل النص إلى خارجة". إنها لمحة صغيرة تخرج من واقع النص الأدبي - كنظرية نقدية متمثلة إزاحة السلطة سواء كان مؤلفا أو ناقدا أو حتى قارئا - إلى الواقع الفكري الاجتماعي والسياسي أيضاً، حيث يمكن إنكار التاريخ والتراث والتشكيك فيه وهدمه، ثم إعادة صياغته وإزاحة كل سلطة كامنة. وهنا يتبين لنا كيف يمكن تأصيل فكرة الشك في كل ما هو تراث وكل ما هو تاريخ حتى يصل الأمر إلى العقائد السائدة والأخلاق، وكل ما هو بين أيدينا من أقوال وأفعال، وهذا هو جوهر العواصف الفكرية التي تجتاح عقول الكثير منا؛ وهم يصرحون بذلك وبدون مواربة، بفعل حقن هذه الحركات الفكرية تحت الجلد، وخروجها من مفهومها النقدي إلى الدوائر الاجتماعية والسياسية أيضا والتراثة ولعقائدية. حيث لا حدود ولا هوية ولا قومية نتيجة إزاحتها عنصري الزمان والمكان باعتبار أننا داخل نص أدبي مما يعمل على التشظي بداخله، هذا التشظي هو ما أنتج لنا ذلك التشظي الواضح في البنى الاجتماعية، لأنها بذلك كانت تدعو إلى تفكيك الحضارات والبنى الاجتماعية وإعادة صياغتها وتركيبها من جديد في سياقاتها التنظرية، وفي منهج تفكيكي كما أشرنا حيث إن من أهم بنودها إزاحة الماضي وتكراره في صياغة جديدة - أي إعادة تركيبه - حتى أنه لم يعد هناك ثقة في الماضي ليمكن إعادة صياغته. وبذلك نجد هذا الفكر امتد إلى مدارات السياسة وهو ما يحدث في عالمنا اليوم. يقول إدوارد سعيد: "من البدهي أن الإمبراطورية - من وجهة نظره - تعني بالأساس حركة جغرافية توسعية، يضيف سعيد لهذا الوصف أنها احتوائية، بمعنى أنها تسعى لصهر بنيات الأمم الأخرى وإعادة تركيبها بما يتوافق والمصالح الإمبراطورية ومن ثم فإن الحركة الجغرافية توازيها حركة ثقافية.. لتناسب الدور الجديد". وبهذا نرى كيف أن الحركات الثقافية والمناهج الفكرية والفلسفية تلعب دورا مهما في توجيه الفكر الاجتماعي والسياسي وينتج عنها تلك الغربة الفردية التي بدأت تبحث عن أعشاش فكرية جديدة لها، فالماضي - أو قل التراث - لم يعد مصدر ثقة أياً كان جنسه أو نوعه وأياً كان قائله أو مدونه في أي حقبة زمنية كان. يتجلى لنا هذا التأثير الواضح لهذه الحركات الفكرية "ما بعد البنيوية التفكيكية" على الهوية والمجتمع، وكيف كان لها أهمية كبرى لدى لبعض أعمال الأكاديميين في النظرية النسوية والنظرية الغريبة. حيث وجد هؤلاء الكتّاب في أعمال بارت ما يسمى ضد الأبويّة (ضد البطريركية) ومكافحة للسلالة التقليدية بأنها محور مهم لأعمالهم النقدية. فقد فسّروا "موت المؤلف" على أنه عمل لا يلغي التفسير النقدي المستقر فقط، بل أيضاً يلغي الهوية الشخصية المستقرة". ولا نجد معالجة فاعلة لخلق توازنات فكرية تنتج مجتمعات متوازنة في نسق اجتماعي متسق وذي ميراث كبير من التراث والفكر والفلسفة والقواعد العقائدية والأخلاقية واستعادتها، سوى بظهور مفكرين جدد كأنداد، تنهض بهم حضارتهم، فعصر النهضة لم يسمَّ بهكذا اسم إلا بظهور علمائه ومفكريه.