أصبح الفرد في بنيته الإنسانية والمجتمعية يقف بين حدين (العلم، والفكر المجتمعي) إذ إن العلم يجد نفسه، بمواجهة بعض الأفكار، أمام استشباح مجتمعي واسع ينتج لنا تصنيفات فكرية بين أفراد المجتمع، تلك التصنيفات التي بات المفكرون يخشون تبعات صورة ذهنية لها في محيطها الاجتماعي.. إذا ما أقررنا أن القيم هي مجموعة الأفكار والعقائد التي تحكم نسقاً ما، فما انعكاساتها على شارع عربي وعالمي بات قرية واحدة كما يقال؟ قد يحار البعض فيما يعتري الشارع العربي والعالمي من اضطراب قد يراه البعض صحوة فكرة أو تقنية، ولكننا نراه نوعاً من أنواع التحرك المؤدلج المتلاطم عبر بوابات الفضاءات المفتوحة حديثة العهد بالفكر العربي وبمعتقداته وبقيمه. ولعل ما يحرك الذهنية العربية في مجمل الفكر المتحرك، هو ذلك التنوع الفكري الذي ربما بات متصادماً مع العلم ذاته وتقنياته وأبحاثه ومعطياته، وأعتقد أن سبب تضارب تلك الأمواج الهائلة هو تضارب فكري لم يسبقه التمهيد له في مجتمعات تحكمها عقيدة واحدة ومنهج فكري متقارب أسس على نوع من الأدلجة المستترة في عمق البنية الفكرية والاجتماعية إن جاز التعبير! فإذا ما كان عمر التعليم لدى الشارع العربي برمته لا يتجاوز النصف قرن، وإذا كان القائمون عليه هم جميعهم يحملون فكراً متقارباً لم يكن واحداً، وإذا كانت جل المناهج تؤسس لتوجه فكري موجه في عمقه الفكري والفلسفي فتم تسييسه في شكل قوالب معرفية تملى على الذهنية ذاتها، ولذلك يقول فرنا نندومون - وهو الأستاذ في جامعة لافال - في هذا الشأن: "إن مجموعة الفكر والقيم سيرورة ينجزها المفكر المزعوم إنجازاً تاماً بكل وعي، ولكن بوعي باطل". هذا التماهي بين الوعي والوعي الباطل هو ذلك المنجر الذي ينجزه ذلك المفكر متعمداً واعياً يعرف إلى أين يرسي قاربه، أما الوعي الباطل فهو ذلك الالتواء العمد الخفي في عمق هذا الفكر أو ذاك والذي تتجرعه المجتمعات بلا هوادة أو فهم، ذلك أن علم المجتمعات شأنه شأن كل العلوم الإنسانية كافة يدرس الفرد فيها موضوعاً بتصورات جماعية دون أن يخدع بها في قرارة نفسه، فلا يكون بمقدوره أن يحكم على المنظومات الفكرية والقيمية! في وقت يُستبعد فيه العلم الذي يقوم على فرضيات ومناهج ثم نتائج مبنية على معطيات متُحقق منها؛ ولذا كان الصراع بين العلم بمناهجه وبين التلقين الذي ساد لعدة عقود مضت. إلا أن قدوم العولمة بمجالاتها السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية وبشروطها: إن الإنسان هو فرد في المجتمع العالمي في محاولة لإزاحة الحدود والهويات والقوميات. كل ذلك لابد أن يشكل صدمة ذهنية إذا ما تماست مع ذهنية ذات اتجاه واحد وفي مركب واحد ولا سيما أنها تختلف عن المركب الآخر، فالأشرعة غير الأشرعة والرياح تسوق كليهما في اتجاه واحد وعلى الكل أن يحدد مساره أو الغرق المحتوم! لم يأتِ هذا العارض لفكري الذي يجتاح العالم بأسره بغتة، وإنما كان نتاجاً لبناء ذهنية ربما تكون إنسانية وربما تكون عالمية النطاق بمختلف جنسياتها في غفوة ليست باليسيرة من الزمن وربما تم تسخيرها في العمق لأغراض سياسية في براءة مستفيضة للمجتمعات ذاتها، ومن المعروف أن الداهية الكبرى هي تسييس كل ما هو إنساني مطلق في زمن يدعي نشر العلوم والمبادئ الإنسانية تحت غطاء زائف ومقنع، وتلك هي المشكلة! ولذا أصبح الفرد في بنيته الإنسانية والمجتمعية يقف بين حدين (العلم، والفكر المجتمعي)، إذ إن العلم يجد نفسه، بمواجهة بعض الأفكار، أمام استشباح مجتمعي واسع كما أسلفنا فينتج لنا تصنيفات فكرية بين أفراد المجتمع، تلك التصنيفات التي بات المفكرون يخشون تبعات صورة ذهنية لها في محيطها الاجتماعي، لأن مجتمعاتنا العربية مبنية على الخوف من اللوم، وهو من أهم المؤرقات لبنية الشخصية العربية، هذه التصنيفات بين ليبرالي وعلماني وسني وشيعي وملتزم ومنفلت وبعضها يصل إلى حد التلويح بالجنوح عن الدين، في حين أن الشخصية واحدة تحمل في طياتها ذات المعتقد وتلك العادات والتقاليد والمفاهيم الاجتماعية، ولم يقتصر الأمر إلى ذلك بل امتد إلى خارج النطاق العربي إلى العالم فأصبح هناك مصطلح المتشددين، والإسلامويين، وغير ذلك ما أنتج لنا ما يسمى ب(الإسلاموفوبيا)؛ وهو الخوف المستعر من الإسلام الذي لم يتبين لهؤلاء حق تبينه، ولم نبذل جهداً في العهود المنصرمة بأنه دين السلام والمحبة والوحدة والإخاء والمساواة ونبذ القتل وإراقة الدماء وما إلى ذلك! لم يعد الأمر صدام حضارات كما أطلق عليه (صامويل هنتنغتون) في كتابه صدام الحضارات بقدر ما هو صراع تصنيفات وأدلجة كل يسوقها بحسب مصالحه السياسية أو ربما الشخصية والنفعية! ولهذا وذاك يبين الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس مجلس هيئة علماء المسلمين، الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى، موقف الإسلام من الأديان الأخرى بقوله: "إننا نتعامل مع (اليهودية) ك(ديانة) مثل التعامل مع المسيحية". ومضى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي قائلاً: "نحن ننطلق من مبادئ نؤمن بها، من بينها تعزيز السلام بين أتباع الأديان، ونتعامل مع الديانة اليهودية كديانة، مثل التعامل مع المسيحية، كلهم أهل كتاب، هم بنص القرآن يختلفون؛ إذ قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاء).. ثم يقول: "هناك يهود وقفوا مع المسلمين في مواجهة الإسلاموفوبيا، ونحن لا نتعامل مع متشددين ولا متطرفين ولا كارهين، خاصة من تسبب في إيذاء المسلمين من أي دين أو ثقافة أو فكر، وخطأ البعض لا يتحمله البقية". وهذا هو تبيان واضح لموقف الإسلام والمسلمين من دون أفكار ملتوية أو تسييس أو لوي الأشرعة في اتجاهات أخرى لمن أساؤوا للإسلام كفكر ومبادئ تم السطو عليها لعقود عدة مضت.