التطور وتنويع الوسائل واستحداث الأساليب عصبٌ مهمٌّ من أعصاب الحضارة، وتفاوُت الأمم في التقدم والقوة بحسب أخذها بوسائل التطور، وما من تحدٍّ يواجه الأمةَ إلا ويهون -بإذن الله وتوفيقه.. ما من ظرفٍ من ظروف الحياة إلا وتلوح فيه فرص متنوعة، يستغلها من وفق إلى ذلك، ويغفل عن استغلالها من كتبت عليه الغفوة، والحياة وإمكاناتها المادية والمعنوية كلها فرصٌ يتفاوت الناس في استثمارها فيما يعود بالنفع في الدارين وهم مسؤولون عنها، كما يدل عليه حديثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» أخرجه الترمذي وحسنه الألبانيُّ، فالحريص على الإنجاز لا ينفكُّ يستغلُّ ما أُتيح له من سببٍ سواء كان فائضَ فراغٍ أو إمكاناتٍ، والذي أخلد إلى الأرض واستهان بتطوير حياته لا يأبه بشيء من ذلك، ونعايش الآن احتياطاتٍ يشهدها العالم للتسبب بإذن الله في دحر الفيروس المستجد، ومن بينها بقاء الناس في منازلهم، وقد تمخّضت عن هذا فرصةٌ سانحةٌ لمحبي الإنجاز وعاشقي العطاء المستمر، والمتطلعين إلى إبراز النعم في طوايا النقم، وهم الذين ينظرون إلى الحياة من زوايا متعددة يستشرقون منها الأمل دائماً، ومما يمكن أن يستغلَّ فيه هذا الجلوس: أولاً: عبادة الله تعالى بأنواعها قلبيةً وبدنية ولسانيةً ومالية، فمن القلبية محاسبة النفس والاستغفار والتوبة والإنابة، وتنقية النفس من الشوائب كخفايا الغلِّ والحسد، وأوقاتُ الفراغ فرصة للإنسان يمكنه أن يراجع فيها نفسه، وأن يتلافى أخطاءه ويندمَ على ما فرَّط في جنب ربه، وأن يستعدَّ لتحسين العلاقة بينه وبين الناس، أما العبادة البدنية التي ينبغي للمتفرغ الاجتهادُ فيها فأهمها الصلاة، وذلك بتجويد الفرائض والإكثار من النوافل لا سيما الوتر والسنن الرواتب، ومن العبادات اللسانية الذكر وكثرة تلاوة القرآن، فمن كان حافظاً فليكثر من الختمات، ومن لم يكن حافظاً فعليه ببذل الجهد في الحفظ والمراجعة، ومن أهم الذكر أذكار الصباح والمساء المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة التضرع لله تعالى وإخلاص الدعاء بأن يرفع الله عنا هذا الوباء ويشفي منه من أصيب به، ويصرفَه عمن لم يصب به، ومن العبادات المالية الإحسان وبذل الخير والبرُّ. ثانياً: التعلُّمُ وهو من العبادات إذا أخلصت فيه النية لله تعالى، وذلك واضح في العلوم الشرعية ووسائلها من تفسير وحديث وفقه وأصول وما يتوقف عليه الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يقتصر كون العلم عبادة على هذه العلوم وحدها، بل يمكن أن يتعبَّدَ بتعلمِ العلوم الحيوية التي يحتاج إليها الناس في معاشهم، وبها قوامُ حياتهم كالطب والهندسة والتخصصات العسكرية والأمنية ونحوها، فتعلم هذه العلوم من الفروض الكفائية التي لا بد أن تكون في الأمة فئة تقوم بها، ومن زاولها بنية سدِّ هذه الثغرة للمسلمين فهو متعبّدٌ مأجور إن شاء الله تعالى، والبقاء في المنازل فرصةٌ كبيرةٌ للمتعلمين والعلماء في كل المجالات للتحصيل والمراجعة والتأمل والتصنيف والابتكار والتطوير، كلٌّ حسب تخصصه، وحسب مستواه. ثالثاً: مزيد العناية بالأسرة، فكثيرٌ ممن ينشغل بالخروج للعمل أو للمهمات الأخرى صار له من الوقت داخل البيت ما يمكنه أن يستغله في إضفاء جوِّ السعادة على أسرته بالابتهاج لها والابتسام في وجوه أفرادها، وتعويضهم ما فقدوا من حضوره الإيجابي، وبذل الجهد في تربية الأولاد وتعليمهم وتوجيههم، والتعرُّف على طموحاتهم وآرائهم فمن كان منهم جارياً على النهج القويم شجّعه ودفعه إلى الأمام، ومن رأى منه خللاً قوَّمه بالحكمة والأناة والإرشاد، كما أن هذا فرصة لإعانتهم على بناء العلاقات الأخوية المتينة، فالعلاقات والمعاملات مهاراتٌ يحتاج الإنسان إلى أن يكتسب تجاربها من ناصحٍ أمين مجرِّب، وأهم من يكتسبُ منه الإنسان التجاربَ الموثوق به والداه. رابعاً: اكتساب الخبرة المتاحة في مزاولة بعض الأعمال عن بعدٍ والبدائل الإلكترونية التي برهنت هذه الأيامُ على أهميتها البالغة، ومما يعود على المجتمع بالنفع تطوير الخبرات التي ستفرزها هذه المرحلة في مجال التقنية الحديثة، وسيستفاد منها بعد انقشاعِ هذه الغمَّة في الرقيِّ بالمجتمع إن شاء الله تعالى؛ فالتطور وتنويع الوسائل واستحداث الأساليب عصبٌ مهمٌّ من أعصاب الحضارة، وتفاوُت الأمم في التقدم والقوة بحسب أخذها بوسائل التطور، وما من تحدٍّ يواجه الأمةَ إلا ويهون -بإذن الله وتوفيقه- ببذلها الجهود المتنوعة والمبتكرة للسيطرة عليه، ونحن في عصر الابتكار والتطوير والتنويع، وبحمد الله تعالى كانت مملكتنا الغالية عند حسن الظن بها في هذا الصدد، ومن أروع الأمثلة على ذلك سرعة توفير وزارة التربية والتعليم للبدائل الفعالة بعد تعليق حضور الطلاب والطالبات للمدارس والجامعات.