قد تتسنى لنا فرصة نسترخي قليلا أو كثيرا على شاطئ ما لبحر ما بعد أن أتعبنا المسير في اتجاهات الحياة، وخضنا من الهموم والمهمات، وواجهنا من المصاعب والآلام، وعشنا بين ألوان الفرح والابتسام، وبين الحزن والتعب، واللوم والعتب، والاجتماع والفراق، والذهاب والإياب، والربح والخسارة، فتكون لنا لحظات الصمت التي تضج بالضوضاء في أذهاننا. نحتاج أن نهرب إلى أنفسنا قليلا.. فنلتحف برداء الوحدة وقتا، ونحلق في ذواتنا، ونتنقل في أرجاء عقولنا بحثا عن الهدوء، والبوح، والشجن، والمراجعة.. قد تصطحبنا النوارس في تحليقها نحو الفضاءات بحركات منتشية، تجعل قلوبنا الرابضة في صدورنا تحلق معها منتقلة إلى فضاء أرحب. وهذا الشاطئ الذي يزدحم بالرمال كازدحام الأفكار في رؤوسنا يجعلنا نمشي فوقه، فيلتصق بنا كالتصاق الخواطر، والشجون في هاماتنا.. فنجلس في زاوية ضيقة من هذا الشاطئ العتيق، فيمتد بصرنا بشكوى ليسمعها الله السميع البصير. نتأمل في تلك الفضاءات، والاستمالات.. نخاطب عقولنا، وننثر في أجوائها نبضنا، ونبثّ بعض حكاياتنا، وأمنياتنا. يجلس أحدنا ودفتره وقلمه في يد، وتلك القارورة الزجاجية الفارغة في يده الأخرى.. تخيلوا أن يبدأ أحدنا بملء مداد قلمه من ماء البحر ليكتب من شجونه، وبعض همومه، وشيئا من حاجاته، وآهاته. ويا ترى بأي لغة سيكتب؟ وكم من الحروف والجمل سيكتب؟ وكم من الرغبات سيكتب؟ وبماذا يبدأ؟ وسينتهي؟ وماذا يريد؟ وكم من الزمن كتب عنه؟ وكم عمر همومه وشجونه؟ أسئلة تتراوح وتتأرجح أمام ناظريه، وتقفز خلف بصره لا يعرف شيئا، إلا أنه لا بد أن يكتبها على هذا الشاطئ، وفي هذا الوقت، وبهذا القلم، وبتلك الورقة.. تملأ الأحاديث رأسه، فترهقه الأسئلة، وترهقه الإجابات، وترهقه الكتابة، وترهقه الأصوات. يبدأ الكتابة فتتساقط الكلمات على تلك الورقة البائسة فيختل حرف، ويتسق حرف، ويستمرالبوح، والترنم على مد وجزر البحر، فيكتب ويكتب، والأفكار في ذهنه تتسابق نحو السقوط على الورقة. تخيلوا أن أحدنا حين ينهي ما يحاول أن يكتبه وهو يدرك زخم كل شيء حوله يلف تلك الورقة المليئة بالشجون والكلمات، وممتلئة بصور ماض وحاضر ومستقبل. ويربطها بحبل أشبه برباط الزمن والحياة، ثم يضعها في تلك القارورة الزجاجية الفارغة ويقفلها بشدة، وقبل أن يقذفها في البحر يحركها وينظر إليها بحسرة، وضحكة، ونبضة، ويرفع دعوة للسميع القدير، فيرميها على جزر قوي لهذا البحر، الذي يقف عليه، فتسقط تلك القارورة وفي جوفها الورقة، وفي بطن الورقة الشجون والأحاديث، وفيها إنسان قذف بنفسه في هذا البحر، تلاطمه الموج وهو ما زال يقف على الشاطئ حائرا ناظرا إلى السماء ورافعا يديه بدعوة كامنة.. عارفا أنها قارورة جامدة، قذف بها إلى البحر والأمر بيده عز وجل، لكن قد يكون هناك من يواسيه من البشر بتدبير الله، متسائلا أين ستصل القارورة؟ ومن سيقرؤها؟ وماذا سيقول؟ وما النتيجة؟ قذف بها دون تردد، وعاد إلى جلوسه على الشاطئ بهدوء وهو ينتظر. ويبقى القول: لو تسنى لنا أن نقف على مثل هذا الشاطئ، ويكتب أحدكم شيئا من شجونه في هذه الحياة، فماذا سيكتب أحدكم؟ وكم سيكتب؟ وما نوع همومه ورغباته؟ وهل سيأتي الرد من الشاطئ الآخر؟ هكذا نحن، لكل منّا شاطئ آخر، تحمل إليه قارورة ما همومه، أمنياته، وعواطفه.. فكونوا الشاطئ الآخر لمن وجدتم قارورته أمامكم؛ ليكون الآخرون لكم شواطئ أخرى تحتويكم بعد فضل الله.