مؤشر الأسهم السعودية يغلق منخفضًا 122 نقطة    تشكيل ريال مدريد المتوقع أمام الهلال    جامعة الملك فيصل ضمن أفضل 40 جامعة عالميًا في تصنيف التايمز 2025    مانجا للإنتاج تنشر لعبة Nioh 3 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باللغة العربية    الطقس الحار يزيد الضغط على مرضى التصلب العصبي.. و"أرفى" تدعو لبيئة عمل مرنة وداعمة    أمير تبوك خلال تكريمه المشاركين في أعمال الحج بالمنطقة جهودكم المخلصة في خدمة ضيوف الرحمن محل فخر واعتزاز الجميع    بر الشرقية توزع أكثر من 31 ألف كيلو من اللحوم على 3274أسرة مستفيدة    "الكشافة السعودية في موسم الحج: مسيرة مجد وتميز في خدمة ضيوف الرحمن"    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    أمير تبوك يزور الشيخ أحمد الحريصي في منزله    الاحتلال الإسرائيلي يقصف منتظري المساعدات جنوب غزة    سعود بن نايف يطلق منتدى الصناعة السعودي SIF الاسبوع المقبل    جمعية الصم وضعاف السمع تبحث فرص التعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية    وِرث يُطلق برنامج مقدمة في فن المجرور الطائفي    وكيل محافظة القطيف أحمد القباع يشكر القيادة على ترقيته إلى المرتبة الثالثة عشرة    أمير جازان يستقبل مدير فرع الهيئة العامة للولاية على أموال القاصرين بالمنطقة    من أعلام جازان.. معالي الدكتور إبراهيم يحي عطيف    القبض على 5 مواطنين لترويجهم الأفيون المخدر و 8,412 قرصًا من الامفيتامين المخدر و 4 كيلوجرامات من الحشيش بتبوك    أكثر من 700 موقع أثري جديد لسجل الآثار الوطني    ريفر بليت الأرجنتيني يستهل مشواره في كأس العالم للأندية بفوزه على أوراوا الياباني    الذهب يستقر عند 3388.04 دولار للأوقية    صن داونز الجنوب أفريقي يهزم أولسان الكوري بهدف بكأس العالم للأندية    فيصل بن فهد بن مقرن يطلع على الاستعدادات النهائية لبطولة حائل للدرفت 2025    ملك الأردن: هجمات إسرائيل على إيران تهدد العالم    إيران تعزز الأمن السيبراني بحظر استخدام الأجهزة المتصلة بالشبكات    إغلاق التسجيل في النقل المدرسي في 10 يوليو    "الأرصاد": "غبرة" في عدة مناطق حتى نهاية الأسبوع    اختبارات اليوم الدراسيّ.. رؤية واعدة تواجه تحديات التنفيذ    الروح قبل الجسد.. لماذا يجب أن نعيد النظر في علاقتنا النفسية بالرياضة؟    النصر يسعى للتعاقد مع مدافع فرانكفورت    رسالة سلام في هدية رونالدو لترامب    أدانت التهجير القسري والتوسع الاستيطاني في فلسطين.. السعودية تدعو لوقف الانتهاكات الإسرائيلية بالمنطقة    اعتماد نهائي لملف الاستضافة.. السعودية تتسلم علم «إكسبو 2030 الرياض»    هيئة الأزياء تكشف الإبداع السعودي في الساحة العالمية    إنشاء مركز دراسات يعنى بالخيل العربية    صورة بألف معنى.. ومواقف انسانية تذكر فتشكر    "الحج" تنهي تسليم نموذج التوعية لمكاتب شؤون الحجاج    بتوجيه من خالد الفيصل.. نائب أمير مكة يناقش خطوات التحضير المبكر للحج    الجدعان: المملكة تتعاون للقضاء على فقر الطاقة في العالم    مركب في القهوة والأرز يقلل الإصابة بالنوبات القلبية    ثورة في صنع أجهزة موفرة للطاقة    مظلات المسجد النبوي.. بيئة آمنة ومريحة للمصلين    «الشؤون الدينية» تقيم دورة علمية بالمسجد الحرام    نائب أمير الرياض يستقبل مديري «الشؤون الإسلامية» و«الصحة» و«الموارد البشرية»    المهندس عبدالمنعم محمد زعرور رئيس مجلس إدارة شركة منصة التشطيب للمقاولات: رؤية 2030 اختصرت الزمن وقادت المملكة إلى نهضة شاملة    وظيفتك والذكاء الاصطناعي 4 أساسيات تحسم الجواب    الجهود الإغاثية السعودية تتواصل في سورية واليمن    مكان المادة المفقودة في الكون    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالصحافة يضع حداً لمعاناة «ستيني» مصاب بجلطة دماغية وأخرى بالشريان الأورطي    القصيم الصحي يجدد اعتماد «سباهي» لثلاثة مراكز    إعادة شباب عضلات كبار السن    ترمب يعقد اجتماعا لمجلس الأمن القومي الأميركي بشأن إيران    93.1% من المتسوقين يشترون من المتاجر الإلكترونية المحلية    قرعة كأس السوبر السعودي تُسحب الخميس المقبل    محافظ الطائف يزور المفتي العام للمملكة..    أمير القصيم ونائبه يستقبلان المهنئين بالعيد    نجاح المبادرة التطوعية لجمعية تكامل الصحية وأضواء الخير في خدمة حجاج بيت الله الحرام    " الحرس الملكي" يحتفي بتخريج دورات للكادر النسائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالملك بن دهيش.. رجل المكارم
نشر في الرياض يوم 22 - 11 - 2018

شخصيتنا هذ الأسبوع هي أحد الأعلام المشهورين، الذين أسهموا كثيراً في خدمة الوطن والعلم والثقافة والتراث، وفي التفاني وبذل الإحسان وصناعة المعروف للناس، لم يكن يعرف لفظة "لا" حينما كان في مناصبه العليا، وبالذات والأخص عندما كان على كرسي الوزارة -رئاسة تعليم البنات-، إنه الشيخ القاضي والوزير عبدالملك بن عبدالله بن دهيش -رحمه الله-، الذي وُلد سنة 1361ه في مدينة حائل، لكنه عاش الشباب والكهولة في العاصمة المقدسة في مكة، فكانت مكة حبّه وصبابته وعشقه، وبها طلب العلم، ودرس في المدارس النظامية، وتخرج في كلية الشريعة، لكن التحصيل العلمي كان في المسجد الحرام، وفي حلقة الوالد الشيخ القاضي الفقيه المشهور عبدالله بن دهيش، الذي يعد من رموز القضاء في المملكة، وأحد الذين لهم باع ورسوخ في الفقه الحنبلي، ولهذا كان تأثير الوالد في ولده ظاهراً وواضحاً وجلياً في العلم، وخصوصا الفقه الحنبلي، كذلك كانت له جهود مشكورة في التحقيق والتدقيق، ومن العلماء المشهورين الذين أخذ عنهم الشيخ عبدالملك، وارتوى من علومهم ومعارفهم الشيخ المحدث القاضي المسند محمد حسن المشاط، الذي كانت حلقته كبيرة في المسجد الحرام، فأخذ عنه علوم الحديث ومصطلحه وأجازه بمروياته، والشيخ المشاط ألف ثبتاً فيه جميع مروياته وذكرياته، وقد طُبع أخيراً، وهو مليء بالفوائد والفرائد، وقدم له الباحث محمد بن عبدالملك الدهيش، وحققه الشيخ محمد بن عبدالكريم بن عبيد، وقرأ على بعض المشايخ مثل الشيخ الزاهد المقرئ المشهور عبدالله بن خياط إمام وخطيب المسجد الحرام، وكذلك استفاد وقرأ على الشيخ يحيى أمان القاضي ومساعد رئيس المحكمة الكبرى، وقرأ على الشيخ المحدث علي الهندي المدرس المشهور في المسجد الحرام، وقد حصل على رسالة الماجستير عام 1409ه، ورسالة الدكتوراه عام 1421ه، هذا هو مشوار الشيخ عبدالملك العلمي والتحصيلي ومحطات تعلمه وعلومه بإيجاز.رجل المكارم
الشيخ عبدالملك بن دهيش -رحمه الله-، رزقه الله عز وجل أخلاقا وسجايا وشمائل عدة، منها كرم النفس والطبع والخلق مع جميع الناس، سواء علت مرتبته أم صغرت، وهذا يتجلى في تواضعه الذي طبع عليه، وليس تصنعاً أمام جمهور الناس، لقد كان حقاً إنساناً ورجل المروءات والشهامة والنبل في عصر الماديات والمصالح المتبادلة، قدم كثيرا من العطاء والسخاء والمعروف، ولم ينتظر الشكر والمكافأة والجزاء، كان في قمة الرحمة والشفقة للحالات الإنسانية الشديدة، وبالأخص ما يتعلق بوضع المعلمات عندما كان على كرسي الوزارة -رئاسة تعليم البنات-، وكان مكتبه في الرئاسة مفتوحاً لكل الناس، بل إن منزله في مكة قد خصصه أياماً للناس والمراجعين، ولم يكتف بالمكتب، وإنك لتعجب أشد العجب من هذه الشخصية التي كانت في خدمة الناس في مختلف طبقاتهم، وصبرها على تعدد وأنواع وأشكال حاجات الناس من مختلف مناطق المملكة، رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً، وتبهر بهذه الأريحية العالية، وقد جربت ذلك بنفسي في شفاعة لإحدى المعلمات كانت تريد النقل من الطائف إلى جدة بخطاب موجه إلى معاليه، فوجدت جمهرة من الناس في مكتبه، وهو جالس يستقبل هؤلاء الناس الذين انهالوا عليه من كل صوب وحدب، لم يكن -رحمه الله- يغضب من أي مراجع، بل يناقش المراجع بهدوء وسكينة، ويشرح له الإمكانات المتاحة لمشكلته صغر أو كبر هذا المراجع، لقد وهب الله عز وجل عبدالملك بن دهيش مَلَكَة في امتصاص الغضب من المراجعين وإقناعهم بشكل سلس ومريح.
موقف مؤثر
ولقد حدثني ابنه محمد بن عبدالملك بن دهيش عن أحد المواقف، ويقول إنه بالغ التأثير في نفسه، حيث إن الوالد كان يستقبل الناس في منزله سواء كانوا مراجعين أو زواراً أو ضيوفاً كل خميس، وكان مجلس الزوار كبيراً جداً ومليئا بالناس ومكتظا، فحدث أن جاءت امرأة ومعها ثلاث بنات وتكلمت وهي عند مدخل المجلس، وهي تقول موجهة كلامها للوالد الشيخ عبدالملك: «بناتي ثلاث، وأريد منك يا شيخ أن توظف واحدة منهن لأجل أن نعيش من راتبها، فزوجي متوفى»، فقال لها: «أين تسكنون؟»، قالت الأم: «في الحي الفلاني بجوار مجمع مدارس بنات ابتدائي ومتوسط وثانوي»، فاعتمد توظيف البنات في هذا المجمع، فأجهشت الأم بالبكاء الشديد من هول المفاجأة، وأصبحت تتكلم بغير وعي، بل إنها لمّا هدأت وسكنت اعتمد أن تُعيَّن الأم في المجمع نفسه، الذي عين فيه بناتها الثلاث، وقال لها: «لأجل أن تداومي مع بناتك ويطمئن قلبك».
وأكد نجله محمد أن هذا الموقف حدث أمام عينه وأمام جمع من الناس، وهو من أقوى المواقف، وله تأثير في نفسه، ولا يمكن أن ينساه، بل بقي منقوشاً في الذاكرة، فهذه الأم كانت مؤملة توظيف بنت واحدة وليست على يقين من هذا التوظيف، فإذا فضل الله عز وجل وكرمه وفرجه يكون على يد الوالد بأن توظف الأم وبناتها الثلاث.
مروءة وشهامة
وثمة قصة أخرى من قصص الشيخ عبدالملك بن دهيش، التي تدل على مروءته وشهامته وعمق إنسانيته، بل نحسبه أنه يريد بذلك وجه الله والدار الآخرة، ما حدثني به كذلك محمد بن دهيش عن والده عندما كان رئيساً لتعليم البنات قائلاً: كنت بصحبة الوالد حيث كنا متجهين إلى مقر الرئاسة، وعند دخولنا بوابة الرئاسة من الداخل؛ إذ بامرأة ومعها خمس بنات من سن الرابعة حتى سن الثانية عشرة عاماً، وكلمت الشيخ الوالد، فأراد أحد حراس الأمن منعها وجذبها، فغضب الوالد من حارس الأمن، وقال له: «دعها»، وقال لها: «ماذا تريدين؟»، فقالت: «أنا أم لهؤلاء الصبية وأبوهم قد توفي في حادث سيارة، وليس لهم عائل، وأنا ساكنة في حفر الباطن»، ثم قدمت خطابها فوقع عليه الوالد يعتمد توظيفها على وظيفة «مستخدمة» على أعلى بند بمدرسة بجوار منزلها، وأمر حارس الأمن أن يذهب بالخطاب للمدير المختص، وقال: «قل للمدير أن يصدر قرار التعيين الآن، وأن يتصل بالمدرسة التي عينت فيها هذه المرأة ليتأكد من مباشرتها».
وأمثال هذه القصص كثيرة جداً، وحدث عن البحر ولا حرج، فالشيخ عبدالملك كانت المروءة والشهامة تجري في دمه، وليست عابرة أو عاطفة جياشة، بل هي أخلاق وطبع طبعها الله في خُلُقُه وسلوكه وسجاياه.
أروع الأمثلة
وكنا نقرأ في أخبار المتقدمين أصحاب المروءات والشهامة في كتب الأدب والمسامرات الشيء الكثير، وأحياناً نشك في هذه الأخبار والقصص والحكايات، وأنها مصنوعة تروى للتسلية والترويح والمتعة، لكن لما سمعت بعض قصص الشيخ عبدالملك بن دهيش في مروءته وشهامته، أيقنت أن هذه الأخبار التي تروى عن قصص المتقدمين ليست بعيدة من الصحة، فالشيخ عبدالملك بن دهيش سار ذكره في المجتمع وعند جمهرة الناس بأنه قد ضرب أروع الأمثلة في عصرنا الحاضر في بذل العون والمساعدة للناس لما كان على كرسي الوزارة رئيساً لتعليم البنات.
وثمة قصة أخرى يحدثني بها محمد بن عبدالملك بن دهيش قائلاً: إني كنت في صحبة الوالد -رحمه الله- وكنت ملازماً له، وكان ذاهباً إلى الرئاسة، وتوجهنا إلى المكتب، فإذا برجل طاعن في السن عليه عباءة يكلم الوالد ويقول في قبول ابنته في إحدى الكليات المتوسطة في حفر الباطن، وكان هذا الرجل تظهر عليه رائحة الغنم، فقال الوالد لحراس الأمن: «إذا استقبلت المراجعين ليكن هو الأول»، فاستقبل الوالد المراجعين، وفطن أن هذا الرجل المسكين لم يدخل، فقال لي: «اذهب إليه وانظر أين هذا الرجل»، فذهبت ورأيته في آخر أحد الممرات القريبة من مكتب الوالد، وكان حوله حراس أمن منعوه من الدخول، وكان رافعاً صوته، فذهبت إلى الوالد وأخبرته فانزعج وأمر لمن حوله من السكرتاريه أن يحضروه فأحضروه فوراً، لكنهم أدخلوه وسط صالة المراجعين، فشاهده الوالد وقال له: «تعال يا عم اجلس بجانبي على الكرسي»، وأمر أن يؤتى بماء وقهوة وشاي، ثم قال لهذا الرجل الطاعن في السن: «وش عندك يا عم؟»، فقال: «يا شيخ أنا عندي ست بنات وأنا ساكن في البر، أعيش وأنام مع الغنم، واحدة منهن أبيك تعينها في إحدى الكليات المتوسطة بحفر الباطن لأجل أن تتوظف إذا تخرجت وتنفق على أخواتها، وأنا مالي ولد ذكر، وما باقي لي في هالدنيا عمر»، فقال الوالد: «كم نسبتها في الشهادة؟»، قال الرجل: «مائة درجة»، فقال الوالد: «خلاص مقبولة، وإذا تخرجت تعال لي وأعينها معلمة»، فبكى هذا الرجل، وأصبح يدعو للوالد بصوت مرتفع، وكان هذا مشهداً بالغ التأثير في نفسي، ثم أمر أن يعد خطاب في الحال بقبولها في الكلية المتوسطة، ووقع الوالد الخطاب، وجعله في ظرف وورق مختوم، ثم قال لوالد الفتاة: «لا تفتح الظرف بل سلمه لعميدة الكلية بحفر الباطن مغلقاً ومختوماً»، وما زال هذا الشيخ الكبير في السن يلهج بالدعاء للوالد.
إزالة العقبات
والمواقف كثيرة والقصص زاخرة عن مروءة وشهامة الشيخ عبدالملك بن دهيش عندما كان يتربع على كرسي رئاسة البنات، فلَكَم غرس في هذه القلوب الحزينة المنكسرة البائسة الفرح والسرور، سواء باعتماد نقل من قرية إلى قرية أو اعتمد تعيين وتوظيف، فكانت هذه الوظيفة هي المصدر الأساسي لدخل هذه الأسرة الفقيرة، ولقد كان نقل المعلمات هو أكثر ما يبادر به الشيخ عبدالملك؛ لعلمه أن هذه المعلمة أو تلك لا تستطيع السفر وحدها ولا حتى السكن بعيدة عن أهلها.
ويروي زايد الحارثي في كلمة له عن الشيخ عبدالملك بن دهيش -رحمه الله- أنه كلمه بخصوص معلمة جاء تعيينها في غير إقامتها الدائمة، وكان أبوها مصاباً بمرض خبيث، ولا يستطيع الاستغناء عنها، وشرح له موضوعها، وبادر الشيخ عبدالملك إلى نقلها حالاً من دون تأخير نظراً لحالة أبيها المرضية الصعبة، فابن دهيش في كل مناصبه التي يتولاها منذ أن كان قاضياً ورئيس محكمة إلى أن أصبح رئيساً لتعليم البنات، كانت أحواله مع الناس التيسير في مصالحهم، وكانت همته وشغله الكبير إزالة كل العقبات التي قد تعيق أمور الناس، مع القوة والحزم والبت في الأمور الطارئة، التي لا تنتظر التأخير والتريث والتأني في القضايا الكبيرة التي تحتاج كثيراً من الدراسة والاستشارة وأخذ وجهات النظر من قبل المستشارين، ولأنه كان قاضياً ويعرف بعمق أحوال الناس ومشكلاتهم، فكان -رحمه الله- يجنح إلى الصلح بين المتخاصمين، وخصوصاً في القضايا الأسرية الخاصة التي يكون الحكم فيها والفصل أمرا متعذرا.
لَمُّ الشتات
ويروي لي محمد بن عبدالملك بن دهيش عن موقف شاهده، وكان حاضراً جلسة قضاء بين زوج وأبي الزوجة، وكان المدعي أبو الزوجة والمدعى عليه الزوج، ودعوى أبي الزوجة أنه يطالب الزوج بدفع المؤخر من المهر، وكان مبلغاً كبيراً في ذاك الزمن، وهو ما يقارب أربعة آلاف ريال، والزوج لا يستطيع دفع المبلغ، وكانت الزوجة حاضرة للجلسة، فسألها الشيخ عبدالملك: «هل أنت راغبة في زوجك؟»، «قالت: نعم»، وكان أبو الزوجة يصر على المؤخر، فما كان من عبدالملك ابن دهيش إلا أن دفع نصف المبلغ من راتبه، والنصف الآخر تكفل به أحد رجال الأعمال، وبهذه الشهامة منه استطاع أن يلم شتات هذه الأسرة -رحمه الله-.
ويقول لي الشيخ منصور البسام: إن عبدالملك بن دهيش كان من أحسن القضاة تسهيلاً على الناس، بحيث إنه ما كان يعقد الأمور التي هي في الحقيقة روتينية بحتة، بل يطلب الأشياء الأساسية في القضية أو الموضوع المطروح، فالسهولة والتيسير على الناس كانت ديدنه في المحكمة، وبالأخص في الأوقاف القديمة المعقدة، لكن هو بعقله وحكمته تكون الإجراءات سهلة، فسهل على كثيرين لما كان رئيساً لمحكمة مكة الكبرى.
تأليف وتحقيق
ولم تكن مناصب الشيخ عبدالملك بن دهيش لتشغله عن البحث والتحقيق والتأليف، بل إن الشيخ أسهم كثيراً في ميدان التأليف والتحقيق حتى في المقالة في الصحف والمجلات، وكانت آثاره العلمية على قسمين تأليف وتحقيق، أما التحقيق فلقد حقق مخطوطات منها ما يتعلق بالمذهب الحنبلي، وقد خدم كتب المذهب خدمة عظيمة وكبرى بنشره هذه المخطوطات، ومنها: «موسوعة الفقه الحنبلي»، وهي إحدى موسوعات الفقه الحنبلي المتأخرة، وكتاب «معرفة أولي النهى شرح المنتهى» لابن النجار الحنبلي، وهو كتاب لا يستغني عنه طلبة العلم ولا القضاة كذلك، وقد طبع عدة طبعات، ومن خدماته لكتب المذهب الحنبلي نشره لكتاب «إرشاد أولى النهى لدقائق المنتهى»، وهو كتاب كذلك مهم لكل باحث في المذهب الحنبلي، كما قام بتحقيق ونشر شرح الزركشي على متن الخرقي في ثلاثة مجلدات، وهناك شرح آخر لمتن الخرقي بعنوان «الواضح في شرح مختصر الخرقي»، وحقق ونشر «الممتع في شرح المقنع»، ونشر رؤوس المسائل في الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وحقق كتاب الحاوي في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن كتب المذهب الحنبلي التي اعتنى بها الشيخ عبدالملك -رحمه الله- كتاب المستوعب، فقد كان حنبلي المذهب ومحبا للتراث الحنبلي العريق، وعليها درس ونشأ وطلب العلم، وعكف على قراءتها وعشقها، وأصبح خبيراً في كتب المذهب القديمة والمتأخرة، وأصبح مرجعاً في كتب المذهب، لذلك ألَّفَ كتابه النافع المفيد «مصطلحات الفقه الحنبلي»، والشيخ ابن دهيش طبعاً ليس متعصباً للمذهب، بل هو من المحققين الذين ينهجون الدليل الصحيح كما تشاهده وتقرأ في بحوثه ومقالاته وفي كتبه التي ألفها، خاصةً منسكه عن الحج والعمرة «التيسير للناسك في أداء المناسك».
نصيب أوفر
ونالت مكة المكرمة النصيب الأوفر والحظ العظيم في حياة الشيخ عبدالملك بن دهيش، حيث كانت مكة في قلبه وعقله وروحه، عاش بها معظم حياته، وشاء الله عز وجل أن يموت ثراه بها ومدفنه في أرضها، لذلك اتجه إلى تحقيق بعض المصادر لتاريخ مكة وأشهرها الكتاب النفيس الذي يعد من المصادر المعتمدة في تاريخ مكة القديم، وهو كتاب أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي، وقد حققه الشيخ عبدالملك وخرج آثاره وأحاديثه وكتب له مقدمة ثرية عن الكتاب ومؤلفه ودراسة عنه، وحقق ونشر لأول مرة كتاب «إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام»، ونشر الكتاب التاريخي «تحصيل المرام بأخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم وولاتها العظام»، وأما دراسته النفيسة التي لم يسبق إليها لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، فهو كتابه البكر «الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به»، الذي نال به السبق في التأليف، وأثنى عليه كثير من العلماء، وكتابه الآخر حدود المشاعر المقدسة لا يقل أهمية عن كتابه الحرم المكي والأعلام المحيطة به إلى غير ذلك من كتب.
هذه بعض رحلة الشيخ عبدالملك بن دهيش الذي يستحق الكثير منا كباحثين -رحمه الله-، ولقد توفي في شهر شوال عام 1434ه وصلي عليه في المسجد الحرام ودفن في مكة التي كان يعشقها.
عبدالملك بن دهيش لما كان رئيساً لمحكمة مكة الكبرى
.. وهنا في مكتبه الخاص
ابن دهيش في الاحتفال بأول برنامج ماجستير في المملكة بجامعة الملك عبدالعزيز
مع والده عبدالله بن دهيش في عرفات
صلاح الزامل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.