يبدو أن الألم الذي يُسببه الفقر والبؤس والحرمان مهما كان غائراً في أعماق الروح قد يغرس شيئاً من القوة والأمل والطموح، فهذا جوزيف الابن الأكبر بين ستة أطفال، والده جوناس يعمل خياطاً بسيطاً، وأمه ماري سويفت ابنة مزارع فقير، تُوفيت وهو في الخامسة، وقضى سنواته الأولى مع جده لتخفيف الأعباء عن أسرته المعدمة، وتبنته خالته التي لم تنجب أطفالاً بعد أن تزوج أبوه بأخرى، واضطر إلى ترك المدرسة لإصابته بمرض السل الرئوي، ليُصبح بعد تلك الحياة القاسية أحد أعظم المفكرين والكيميائيين على مر العصور. يُعتبر المفكر والكيميائي الإنجليزي الشهير جوزيف بريستلي أحد أهم العلماء التجريبيين المؤثرين في القرن الثامن عشر، وصاحب الإسهامات العظيمة في حقول العلوم والتربية والفلسفة والتاريخ واللاهوت. ولد جوزيف بريستلي في بلدة فيلدهد في مقاطعة يوركشاير الإنجليزية عام 1733، وبسبب الفقر والمرض تنقل بين عديد من البيوت والمدن ولم ينتظم كثيراً في مدرسة حكومية، إلا أنه كان يتمتع بذكاء شديد ساعده كثيراً على تعلّم عديد من اللغات كالفرنسية والإيطالية والألمانية والعربية، وبرع في الرياضيات والعلوم، وبعد أن تحسنت صحته وظروفه المعيشية التحق بأكاديمية دافنتري المستقلة في مقاطعة نورثهامبتونشاير؛ حيث درس التاريخ والعلوم والفلسفة. تنوعت وتعددت إسهامات جوزيف بريستلي، فقد نشر أكثر من 150 كتاباً وبحثاً وتقريراً في مجالات عدة، وهو الذي اخترع ماء الصودا عام 1772، واكتشف 10 غازات أهمها الأكسجين الذي نشر بحثاً مهماً حوله عام 1775، كما كان يعمل واعظاً في كنيسة برمنجهام، وافتتح مدرسة خاصة لتدريس أفكاره ونظرياته حول التربية والتعليم، وبسبب آرائه ومعتقداته المثيرة خاصة نظريته الصادمة "المسيحية العقلانية"، إضافة إلى تعاطفه مع الثورة الفرنسية حُرق منزله وكنيسته عام 1791، فهاجر إلى أمريكا واستقر نهائياً في مدينة نورثمبرلاند في ولاية بنسلفانيا. نال جوزيف بريستلي عديدا من الجوائز والألقاب والإشادات، أهمها وسام كوبلي عام 1772 وهو أقدم وأهم جائزة مرموقة تمنحها الجمعية الملكية بلندن للعلماء المميزين، وقد حصل عليها نتيجة "مجمل تجاربه المفيدة الواردة في تقاريره العلمية العظيمة"، وتخليداً لذكراه سُميت كليتان باسمه، وهما كلية بريستلي في وارينغتون وكلية جوزيف بريستلي في ليدز، وأقيم له عديد من النصب واللوحات التذكارية، ومنذ عام 1952 تقدم كلية ديكنسون "جائزة بريستلي" لكل عالم يقدم "اكتشافات تسهم في تطور البشرية"، كما أسست الجمعية الكيميائية الأمريكية عام 1922 قلادة بريستلي التي تُمنح لأهم العلماء الملهمين. تُوفي جوزيف بريستلي في نورثمبرلاند عام 1804 عن 71 عاماً ودفن في مقبرة ريفرفيو. ورغم أن جوزيف بريستلي اخترع أول ممحاة حين وجد أن للسائل الذي يخرج من شجرة الصمغ القدرة على محو الكتابة بقلم الرصاص، إلا أن اسمه الخالد كإحدى أعظم الأيقونات الملهمة في تاريخ البشرية لن يُمحى من ذاكرة الخلود؛ لأنه "قلادة نبوغ" تُزيّن صدر الزمن. يقول جوزيف بريستلي: "أفضل شيء تعلمته في حياتي، هو ألا أسرف في إعجابي أو احتقاري للآخرين". Your browser does not support the video tag.