تاريخ الطب (مثل أي علم) مليء بالادعاءات الكاذبة والإنجازات المخادعة.. وقبل مائة عام تقريبا عاش في سان فرانسسكو عالم مشهور في الباثولوجي أو علم مسببات الأمراض يدعى «ألبرت إبرامز». وقد عمل معظم حياته في محاولة تطوير تقنيات تشخيص الأمراض في مختبرات كوبر الطبية. وحين وصل لسن الخمسين خرج بفرضية غريبة تدعي أن لكل مرض (ذبذبة كهربائية خاصة) يمكن قياسها وتحديد طبيعتها اعتمادا على (عينة دموية) تؤخذ من المريض. ولتسهيل مهمة الأطباء اخترع صندوقا صغيرا دعاه «الدينميزر» يكشف المرض بمجرد وضع نقطة دم وسط (قبة مقلوبة) فوقه.. وعلى جانب الصندوق يوجد عدادان يشير الأول إلى مستوى تبخر الدم والثاني الى طبيعة الذبذبة واسم المرض. وبسرعة انقسم الوسط الطبي ما بين مؤيد لفكرة الدكتور إبرامز ومابين متهم إياه بالدجل والشعوذة.. أما عامة الناس فأطلقت على الجهاز الجديد اسم الصندوق الأسود (الذي كان أسود بالفعل واقتبس اسمه لصندوق الطائرات الأسود) وعرض بعض المحسنين توزيع كميات كبيرة منه على المدارس ومراكز الصحة العامة... غير أن الجمعية الطبية الأميركية ثم الجمعية الملكية البريطانية للعلوم الطبية رفضتا الاعتراف بفرضية الدكتور ابرامز وفعالية جهازه الجديد.. بل أن الجمعية البريطانية أرسلت له (دم خنزير) لتحليلها في الجهاز فأرسل إليها النتيجة الآتية : «رجل مسن مصاب بسرطان في الكبد».. أما الجمعية الأميركية ففتحت أحد الأجهزة أمام الشهود فوجدت مغانط صغيرة تحيط بالقبة المقلوبة (بالاضافة الى أغشية عضوية مغطسة في حامض تخرج منه أسلاك مجدولة تلمس أسفل القبة) ولكنها عجزت في النهاية عن فهم العلاقة بين « كل هذه الأشياء» ودورها في تشخيص الأمراض! ورغم الانخفاض المتواصل في سمعة الدكتور إبرامز إلا أنه عاد واخترع جهازا أكبر حجما أدعى أنه ليس قادرا فقط على رصد الأمراض، بل وعلاج المريض من خلال إعادة إرسال «الذبذبات الشافية» إلى جسده. ورغم أن فكرته لم تلق اعترافا رسميا إلا أن الإقبال الشعبي على عيادته فاق التصور.. وحين حاول استقطاب الأطباء الشباب لفكرته سحبت الجمعية الطبية رخصته المهنية بشكل نهائي... وفي السنوات التالية ماتت فكرة الصندوق الأسود بموت الدكتور إبرامز وغدت أضحوكة في عالم الطب.. غير أنها كانت تعود للحياة في كل مرة يخرج بها جهاز كشف جديد يعتمد على تحليل مكونات الدم ومحاولات كشف الأمراض من خلالها!! .. على أي حال ؛ رغم فشل أول صندوق إلا أنه أسس في رأيي لمفهوم (أجهزة القياس الحديثة) ويعد الأب غير الشرعي للأجهزة التي نراها اليوم.. صحيح أن فشله أصبح مؤكدا ولكن الفكرة ذاتها ممكنه وظهرت فعلا من أجهزة التحليل الحالية والكشف عن الأمراض من خلال «نقطة دم» بما في ذلك أجهزة السكر المنزلية!!