القيادة تعزّي أمير وولي عهد الكويت.. وتهنئ رئيس الكونغو    أداء مطاري الجوف والقريات على طاولة فيصل بن نواف    استعراض "بيدي" لتأهيل الفتيات أمام سعود بن نايف    نمو صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي يعزز مكانة المملكة كمركز استثماري إقليمي وعالمي    أمير جازان يستقبل مدير الشرطة والمرور بالمنطقة ويطلع على تقرير المرور    لاعب برشلونة يرد على النصر    شبكة القطيف الصحية تنظم دورة تخصصية في تمريض النساء والتوليد    رئيس مجلس الشورى يصل إلى مملكة كمبوديا في مستهل زيارة رسمية    نمو أصول صندوق الاستثمارات إلى 4.32 تريليون ريال وإيرادات 413 مليار ريال    حملة توعوية وتثقيفية على مغاسل الملابس بالظهران    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزة إلى 58 شهيدًا    أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزتي المواطنة المسؤولة و"صيتاثون" في دورتها الرابعة    غرفة الشرقية تناقش دور القطاع الخاص في البرنامج الوطني للتشجير    فهد بن سعد بن فيصل يطلع على أبرز البرامج والإنجازات لتجمع القصيم الصحي    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية    أمير جازان يستقبل قائد قوة الطوارئ الخاصة بالمنطقة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشن عددًا من المشروعات بجامعة جازان    "الشمري": يزور مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة    جمعية "وقاية" تنظّم معرضاً توعوياً وندوة علمية بمستشفى وادي الدواسر    السمنة مرض مزمن لا ضعف إرادة    لمسة وفاء.. سلطان بن أحمد السديري    الاحمدي يكتب.. جمَّلتها ياهلال    البيعة الثامنة لولي العهد بلغة الثقافة والفنون    هيئة الموسيقى السعودية وعازف البيانو الصيني وأول برنامج صيفي لتعليم البيانو في المملكة    سعد الصقير أول طبيب أمراض جلدية من دول الخليج يحصل على وسام القيادة الدولية في الأمراض الجلدية لعام 2025    كندا تلغي ضريبة الخدمات الرقمية    تصعيد متبادل بين العقوبات والمواقف السياسية.. روسيا تشن أعنف هجوم جوي على أوكرانيا    التعليم في ميزان المجتمع    توقيف شخصين ظهرا في محتوى مرئي بسلاحين ناريين    نقل 1404 مرضى داخل المملكة وخارجها عبر 507 رحلات إخلاء    الملكية الفكرية ليست مائدة نقاش ديني.. بل مبدأ لا يُمس!    ترسيخ الحوكمة وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة.. السعودية تقفز إلى المرتبة 13 عالمياً في حقوق الملكية الفكرية    موجز    المملكة تقود تعاوناً دولياً لدعم الطاقة النظيفة    انطلق في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.. "جيل الابتكار".. يعزز ثقافة البحث لدى الموهوبين السعوديين    ما عاد في العمر متسع للعتاب    مادتا التعبير والخط    بحثا جهود الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الإيرانية يستعرضان العلاقات    مدرب تشيلسي ينتقد الفيفا ومونديال الأندية    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    وزارة الخارجية تُعرب عن تعازي المملكة لجمهورية السودان إثر حادث انهيار منجم للذهب    نائب أمير مكة والقنصل العراقي يناقشان الموضوعات المشتركة    رئيس "الشورى" يبحث تعزيز العلاقات البرلمانية في كمبوديا    دواء جديد يعطي أملاً لمرضى السكري من النوع الأول    "الصحة العالمية" تفشل في تحديد سبب جائحة كوفيد- 19    أخضر السيدات يخسر أمام الفلبين بثلاثية في تصفيات كأس آسيا    الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في خمسة مواقع    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    فاطمة العنزي ممثلة الحدود الشمالية في لجنة المسؤولية الاجتماعية بالاتحاد السعودي للدراجات    استعراض أعمال الشؤون الإسلامية أمام أمير تبوك    الجامعة الإسلامية تدعم الأبحاث المتميزة    "الملك سلمان للإغاثة".. جهود إنسانية متواصلة    بعنوان "النمر يبقى نمر".. الاتحاد يجدد عقد مدافعه "شراحيلي" حتى 2028    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصلَ العام لجمهورية العراق    أمير تبوك يطلع على التقرير السنوي لاعمال فرع وزارة الشؤون الاسلامية بالمنطقة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ جولات ميدانية لصيانة جوامع ومساجد المنطقة    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قابلية التعود هي أعظم القابليات لكنها أخطرها
نشر في الرياض يوم 27 - 11 - 2016

ينبغي أن يكون واضحًا أن المجتمعات التي ازدهرت، لم تزدهر بحصول طفرة في وعي عموم الناس مهما نالوا من تعليم، وإنما ازدهرت بعادات التحضر، فالسلوك المتحضر يفيض من الناس في المجتمعات المتحضرة، فيضانا تلقائيا بفاعلية التبرمُج والتعود التلقائي، وليس بإشراق وعي استثنائي لديهم..
قابلية التكيف والتعود والتبرمُج هي أعظم وأنفع القابليات الإنسانية وهي أيضا أخطرها وأدوَمُها ضررًا، أما مصدر الخطورة فيعود إلى أن أضرار وسلبيات هذه القابلية تتكون في طفولة الفرد تلقائيا، وتستمر في التراكم التلقائي، فالقابليات يصوغها، ويحتلها ،ويتحكم بها الأسبق وهو بمكوناته تلقائيُّ التكوين، وبحكم طريقة تكوينه التلقائية، فإنه في كل الأمم، وعند كل الأفراد لا يخضع لأي غربلة، أو تمحيص، أو تحقُّق، ثم يستمر هذا الأسبق التلقائي يتضخَّم بالتراكم، بما يتفق مع المكوِّنات الأساسية، فكل تصور سابق في الذهن يجذب إليه كل ما يعززه، ويقاوم كل ما هو مغايرٌ له، فثقافات الأمم وعقولها، وعقول الأفراد، محكومة بالبدايات، فتتكوَّن بالتراكم المتلاحق على مستوى الأفراد، والمجتمعات، إعاقات معرفية حادة، وحواجز ذهنية ونفسية صلبة، يصعب اختراقها من أي فكر مغاير...
وتتنوع الإعاقات بتنوع التكَوُّن الثقافي التلقائي لكل أمة، وبالمسارات المتنافرة التي تحكمت بهذه الثقافات خلال القرون، فليس الأفراد سوى قطرات في نهر المجتمع، وتتغير القطرات خلال الزمن، ولكن النهر يبقى هو ذاته، وكذلك المجتمعات يتغير أفرادها خلال الأجيال بالولادات والموت، فالكل يمضى ذائبا في النهر العام، ومع ذلك يتوهم كل فرد في كل المجتمعات بأنه يفكر باستقلال، وبأن حياته سارت مع مسار يحكمه الفهم والتحقق ...
أما منافع وإيجابيات قابلية التكيف والتعود والتبرمُج، فهي لا تأتي لأي فرد في أي مجتمع إلا متأخرة، بعد أن تتشكل الذات عقلًا ووجداناً واتجاهاً، وهي تختلف في بنيتها وفي كيفية تكوينها عن التعود التلقائي، فتكوين الإيجابيات هو عملٌ قَصْدي وليس تلقائيا، وهو ينحصر غالبا في محاولة اكتساب حكمة الوسائل العلمية، والعملية، والمهنية، وقدرات الأداء في مختلف مجالات الحياة، ولكن هذا المكتسَب يبقى منفصلا عن البنية الذهنية، والوجدانية، والولاءات المتشكلة تلقائيا، فهذه البنية لا تتأثر غالبا بالتعليم الجمعي مهما بلغت مستوياته، ومهما تنوعت مجالاته، حيث يوجد اختلاف نوعي بين العلوم، ومختلف الكيانات الثقافية المتمايزة المتنافرة، فيلتقي الدارسون من مختلف الأمم في جامعة أميركية، أو أوربية، ويواصلون الدراسة سنوات، ويتخرجون في نفس التخصص، ولكن تبقى البنية الذهنية والوجدانية لكل منهم كما كانت قبل التزامل. فبالتبرمج التلقائي تتكون الهوية، وبالتعليم القصدي تتكون المهارات والقدرات العملية والمهنية، ويبقى المكتسب قصدا منفصلا تماما عن المكتسب تلقائيا، كانفصال قطعة الزيت الطافية فوق الماء، لذلك فإن الأفراد من مختلف الأمم إذا سعوا لاكتساب أي معارف، أو مهارات في أي مجال، فإن ذلك لا يتطلب منهم تغيير بنياتهم الذهنية، والوجدانية، بل يبقون متمسكين بكل ما تربوا عليه من تصورات، وأنماط، وولاءات مهما تمكنوا في مساعيهم الوسائلية ...
وبسبب أولوية وتلقائية تكوُّن وتراكم أضرار وسلبيات قابلية التكيف والتعود، ولأن الأسبق يقاوم اللاحق المغاير، فقد نمت القدرات البشرية العملية نموا هائلا، من دون أن تتغير التصورات الوجودية والغايات القديمة، فاستمرت في كل العالم هذه الفجوة الهائلة، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، لأن منافع وإيجابيات التعود العظيمة لا تأتي لعقل فارغ ومفتوح، وإنما تأتي لعقل قد تشكل، وأُوصد فتواجَه بمقاومة عاتية، لأن التصورات الأسبق ترفض التصورات اللاحقة المغايرة، ويأتي الرفض تلقائيًّا بثقة وحسم غير قابل للمراجعة أو التفنيد، فهو رفْضٌ نهائي مغلق . وبسبب ذلك لا يمكن عبور هذه الفجوة الواسعة العميقة، إلا بوثبة إنسانية استثنائية خارقة تؤدي إلى إعادة برمجة العقل البشري بعادات فكرية، وسلوكية تتناسب مع التطورات الهائلة التي تحققت في مجالات الوسائل، والقدرات العملية، كما تتناسب مع تطورات العلوم، ووفرة الأفكار، غير أن هذه الوثبة الخارقة، ربما أنها ضربٌ من المحال، إنها أشد المعضلات استعصاء، إنها مفارقة لا يدركها أكثر الناس وبغياب الإدراك يشتد رسوخها وتتضخم فاعلياتها السلبية ...
ويعود هذا الخلل الأساسي العميق في الوضع البشري، إلى الأسبقية الدائمة للتبرمج التلقائي بالجهل المركَّب الراسخ، والغبطة به، والجاهزية التلقائية للدفاع عنه بوثوق مطلق، وولاء محض، وبذلك يستمر التوارث التلقائي في كل الأمم للثقافات، بما تعنيه من صراعات عمياء مع المغايرين، وأحقاد، وثارات وسوء فهم متبادَل، وعادات ذهنية ومعرفية وسلوكية، وولاءات وجدانية، ومن تمايز حاد في التصورات والرؤى، فكل أمة تبقى محكومة بتاريخها، وكل ثقافة تحكم على الطارئ المغاير، مهما كان ضروريا، وممحصا، وعظيما بمعيارها هي، وليس بمعيار علمي موضوعي، ففي كل الأمم لم تتعدل التصورات المتوارثة، بما يتفق مع العلوم الممحصة، والأفكار الخارقة، وإنما ظلت الأمم تتوارث ثقافاتها، كما كانت منذ أقدم العصور، وبذلك انحصرت منافع وإيجابيات قابلية التكيف والتعود ببناء الوسائل والقدرات العملية، واكتساب المهارات المهنية ومهارات الأداء بمختلف أنواعه ومجالاته، وما نتج عنها من بناء قدرات عملية هائلة، أما في مجال الفكر والأخلاق والتصورات والولاءات، فقد بقيت الأمم محكومة بعاداتها الذهنية، وولاءاتها التليدة التي تتوارثها بحتمية تلقائية ...
ينبغي أن يكون واضحًا أن المجتمعات التي ازدهرت، لم تزدهر بحصول طفرة في وعي عموم الناس مهما نالوا من تعليم، وإنما ازدهرت بعادات التحضر، فالسلوك المتحضر يفيض من الناس في المجتمعات المتحضرة، فيضانا تلقائيا بفاعلية التبرمُج والتعود التلقائي، وليس بإشراق وعي استثنائي لديهم. ولا تتكون هذه العادات بالمعلومات، ولا بالتعليم الجمعي والنصائح، وإنما تتكوَّن تَكَوُّنًا تلقائيًّا بالتوجه العام كأسلوب حياة يتقولب به الجميع، وليس بالوعي الفاحص، والإدراك الفردي، فأسلوب الحياة السائد يصوغ قابليات الأفراد : اتجاهاً وتَصَوُّرًا، وسلوكا، وتتعاظم التنمية في المجتمعات المزدهرة لأن كل الإنتاج والإبداعات والانجازات والجهود، تصب في اتجاه التنمية، فالتوجه العام السليم يحشد الطاقات في الاتجاه ذاته، فالنتائج تتجمع فتصنع الازدهار، مثلما يتكون النهر العظيم الزاخر من قطرات المطر، فتتكامل المشروعات التنموية المتوازنة الكبرى، والصغرى، والتنظيم وحشد المهارات المهنية، والاحتفاء بالبراعات المتميزة، وتمجيد المبادرات الفردية، وتأكيد روح المغامرة في الأفكار، والأعمال، وضبط السلوك العام، والفردي بالقوانين والمؤسسات المتوازنة الضابطة، أي بدولة القانون، فالشعوب رُكَّابٌ في قاطرة عامة تتحرك على عجلتي الثقافة والسياسة، فالتفاوت في أوضاع الشعوب ليس آتيا من فارق وعي الأفراد، بل من الاختلاف النوعي في التوجهات، وفي نوعية المؤسسات التي تضبط الحركة، وتحافظ على انتظام التوجه : إيجابا أو سلبا ...
أما الوعي العام المتعلق بالتصورات، والأخلاق، والرؤى الكونية، والوجودية، فيبقى حتى في المجتمعات المتقدمة محكوما بالأسبق التلقائي المتوارث، وبسبب ذلك ظلت منافع وإيجابيات قابلية التكيف والتعود في مجالات الفكر، والأخلاق مهملة، أو مستبعدة، حتى في أشد المجتمعات ازدهارا، رغم أنها أهم خصائص الإنسان ،ومنبع فضائله الحقيقية، لكن الإنسانية بمختلف ثقافاتها، بقيت محرومة من الوثبة الخلاقة المنقذة، التي يمكن أن تتحقق بإحداث قطيعة مع العقلية التي تكوَّنت تلقائيا : عقلية الصراع، والتنافر، والكيانات الثقافية المتمايزة بنيويا، فههذه البنيات تتطلب إعادة تكوين بما يتناسب مع الإمكانات الهائلة التي توفرت لبني الإنسان ...
أما استمرار الأمم بهذا الوضع المختل اختلالا بنيويا، فيعود إلى أن القطيعة المعرفية المطلوبة لهذه الوثبة، تتعارض مع ما تبرمجت به الأمم، فتطبعت به، وتآلفت معه، واعتادت عليه، إن إيجابيات ومنافع قابلية التعود ليست تلقائية، بل تقاومها بضراوة، وتصميم، العاداتُ المستقرة المستحكمة التي تكوَّنت تلقائيًّا، فالعادات الأسبق تكون راسخة رسوخًا عميقًا، وتظل آفاتها محجوبة عن المبرمَجين بها، فلا يوجِّهون إليها أي تساؤل، ولا يقومون بأي تمحيص، وتبقى رغم كل تلقائيتها وعماها هي معيار القبول، أو الرفض، فهذه العادات الذهنية، والوجدانية، والسلوكية، هي قوام العقل الجمعي، وهي المحرك العام، فهي عادات ذهنية، ووجدانية وسلوكية، تتوارثها الأجيال تلقائيا، بينما العادات الإيجابية الطارئة لا تتكوَّن تلقائيا، فالعادات الأسبق غير ممحصة، ولا مختبرة، بل هي عادات تلقائية التكوُّن، والتراكم، فهي كثيفة ومتراكمة وثقيلة، ومزمنة، ومستحكمة، وهي تهيمن بمنتهى التلقائية والخفاء، والفاعلية، والقوة والسطوة، والحتمية، والإحكام على الجنس البشري بمختلف أممه، فتكبِّل عقله، وتفسد وجدانه، وتفرق بين أممه، وتتحكم بأوضاعه، وتحول بينه وبين الاستنارة، بومضات الفكر الفردية الخارقة، والاستفادة خارج المجال العملي النفعي المباشر من فتوحات العلوم الدقيقة الكاشفة ...
إن الإنسان سواء على مستوى الأفراد، أو المجتمعات، أو الجنس البشري، بأجمعه يظل منتظما في المسار الذي تطبع به، واعتاده، يحركه اهتمامٌ محوريٌّ نابعٌ تلقائيا من العادات الذهنية التي تطبَّع بها، لقد تطورت القدرات، والإمكانات العملية، تطورات مدهشة. لأن التنمية في هذه المجالات، صارت محور اهتمام الأمم، ولكن عوامل الصراع بقيت كما كانت، فقد كان الاهتمام المحوري للتنمية في العالم منذ انتشار فلسفة فرانسيس بيكون الذي أسس شعار ( العلم قوة )، هو الاندفاع لفهم الكون من أجل تسخير طاقاته، والتسابق في فرض الذات والهيمنة، وقد جاء هذا الشعار في المرحلة التمهيدية للانبعاث الأوربي، وكان أيضا يتفق مع التاريخ البشري القائم على الصراع، والتنازع، فحين انطلقت أوربا في عمليات التنمية، والتحديث، كان محور اهتمامها امتلاك المزيد من القوة، والهيمنة، فبقيت العلوم والتقنيات في كل العالم من وسائل التنازع، والصراع، وأدوات التحكم بالواقع، وتطوير الوسائل، وبناء القدرات العملية، وغَفَلت البشرية عن إصلاح ذاتها : فكرًا، ووجدانًا، وأخلاقا ...
لقد بقي الإنسان مندفعًا تلقائيًّا باهتماماته القديمة، فهو على مستوى الأمم، والجماعات، والمجتمعات، والأفراد كان ومازال يسعى للسيطرة، والتغلب، وتأكيد الأهمية، وفرض الإرادة، فبقي الاهتمام المركزي للإنسان أينما كان هو امتلاك القدرة من أجل التغلب في الصراعات الأبدية، أما الإنجازات الفردية الريادية الخارقة المغايرة، في مجالات الفكر، والأخلاق، وأحلام تأسيس الحياة الإنسانية على العلم، والسلم، والتعاون. فبقيت خارج التأثير العام تتداولها فئةٌ قليلة العدد، محدودة التأثير من المفكرين، ودعاة الإصلاح ومن هنا جاء هذا الخلل الفظيع بين القدرات العملية الهائلة التي أنجزها الجنس البشري، وبين مستواه الفكري والوجداني، والأخلاقي، الذي مازال بدائيا ووحشيا، رغم كل مظاهر التحضُّر، فالإمكانات الهائلة بقيت كما كانت من قبل مسخرة للسيطرة، أو للتباهي، أو لكسب الاعتراف، وتأكيد الأهمية، وليست للتآخي، والتعاون وتجاوُز مرحلة الصراعات، أي عكس الاتجاه الذي يتَوَهَّمه الكثيرون، حيث تبهرهم الوسائل، ويغفلون عن الخلل الجذري في الفكر والسلوك والغايات ...
لقد تطورت العلوم الاجتماعية والبيولوجية، وعلوم الأعصاب، فكشفت طبيعة الإنسان بنقائصها التلقائية، وإيجابياتها الاستثنائية، فعرَّتْ دمامة الواقع البشري، وأدركتْ أسباب هذه الدمامة الفكرية، والخواء الأخلاقي، والوحل الوجداني، كما كشَفَتْ الآفاق العظيمة المفتوحة للارتقاء الإنساني فكريا، وأخلاقيا، ووجدانيًّا بقابلية البرمجة، وتكوين العادات الرفيعة الممحصة، لكن العادات الذهنية البشرية المتناقضة التي تكوَّنت تلقائيا، تضع حجاباً صلدًا بين الإنسان في كل الأمم، وبشاعات عاداته الذهنية المتحجرة، وغاياته المتنافرة المتوارثة. وبهذا الحجاب الصلد المهيمن على العقل البشري في كل مكان، بقيتْ كل أمة مغتبطة بعاداتها المتوارثة، وسعيدة بأوهام امتيازها، واثقة ثقة مطلقة عمياء بأنها هي وحدها فقط على المسار الصحيح، وأن كل المغايرين تائهون ضالون يتحركون في اتجاهات كلها خاطئة، ومهلكة، فالإنسانية بكل انتماءاتها مازالت تفصلها عن المستوى الإنساني المأمول، إعاقات فكرية هائلة، وفجوات أخلاقية عميقة، وحواجز وجدانية صلبة، وركام تاريخي ثقيل ...
إن الإنسان غالبا لا يحس ولا يدرك بأن العادات الذهنية، والوجدانية، والأخلاقية، التي تَبرمج بها تلقائيًّا أو قصدًا، هي التي تتحكم به، وتحجب عنه الحقائق التي لم يتعود عليها، كما أنه بالمقابل قد لا يدرك بأن التبرمُج، والتعود، هو مصدر ما يملكه من معرفة، أو خبرة، أو حكمة، أو مهارات، فالتعود وليس المعلومات هو الذي يتيح له أداء الأعمال بسرعة ودقة وبأقل مجهود، ولولا قابلية التعود لكانت الحياة البشرية بمتطلباتها المتزايدة غير ممكنة، لكنه بالتعود وليس بالمعلومات يصير مذهلا في سرعة حركته، وإتقان أدائه، فتفكيره وسلوكه ينسابان من مخزون التعود تلقائيا. تخيَّل شخصًا لم يسبق أن رأى سيارة في حياته، ويريد أن يتعلم القيادة، إن المعلومات التي يلزم أن يتلقاها لا تزيد عن بضع كلمات، لكن هذه التعليمات التي يتلقاها، لن تجعله يحسن القيادة، وإنما المصدر الحقيقي لاكتساب مهارة القيادة هي الممارسة، والمران، ثم بعد التكرار الكافي لبناء المهارة، التي هي عادة الفعل تلقائيا، ينساب الأداء انسيابًا تلقائيا، فيقود السيارة بسرعة ضمن حركة سريعة مع طريق ضيق، ويتحدث مع مرافقه، ويأكل ويشرب، بينما الانسياب التلقائي من مخزون العادة يقوم بالدور، وكذلك كل المهارات المعرفية، والعملية الفائقة، مثل المشي على حبل فوق فراغ مخيف، أو ركوب الدراجة، أو الطباعة، أو المهارات الرياضية العجيبة، فكل شؤون الحياة البشرية ما هي إلا سلسلة من العادات الذهنية المعرفية، والعملية، والسلوكية، ولولا هذه الانسيابية التلقائية، لكانت حياة الإنسان شديدة العسر، بل لكانت مستحيلة ...
وقبل ذلك كله، وأهم منه، أنه لولا قابلية التشرُّب التلقائي، والتبرمُج، والتعود، لما انتقل الطفل من عالم القابليات الفارغة، إلى عالم الثقافة، واللغة، وتَشَكُّل العقل، فهذا الانتقال التلقائي يحصل قبل انبثاق الوعي، ثم بعد هذا التشكُّل التلقائي يبقى الوعي يقوم ببناء العادات التي تقتضيها الحياة، لكنه هو ذاته يبقى محكوما بالتبرمُج الأساسي التلقائي، فهو معْبَرٌ وأداةٌ لاستخدام مخزون العادات في الخافية، إنه مثل محرك البحث، فهو يشبه ( فارة ) الكمبيوتر هو ومجرى، وجسر، وأداة استدعاء من مخزون الذات، أما وظيفته الثانية، فهي تعبئة الذات بما يراد اكتسابه، وبناء العادات العلمية، والعملية، فالمعلومات لا تصير معرفة جاهزة للاستخدام، حتى تمتزج في الذات، فتكون الاستجابة تلقائية، وكذلك مهارات الأداء، لا تتدفق تلقائيا إلا إذا تشبعت بها القابليات، فلا يمكن أن يكون المرء طيارا، بقراءة معلومات عن قيادة الطائرات، مهما كانت المعلومات دقيقة، وعميقة، وإنما يصير طيارا بالمران، والممارسة، ليتصرف بشكل فوري وتلقائي، وحتى بعد الممارسة، إذا انقطع عن العمل، ثم عاد إليه، لا يُقلع وحده بعد عودته، وإنما يكون برفقة طيار منتظم، لأن المهارات تتلاشى بالانفصال عن العمل بمقدار مدة الانفصال ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.