أكثر من نراهم يتقلبون بين منهجي البتر والاستلال، تجرفهم أهواؤهم إلى مستنقع تناقضاتهم، فتبدو منهم في النظائر المتشابهة أحكامٌ متباينة، حتى صار هذا المنهج مطّردًا في أطروحاتهم واستدلالاتهم حتى عند تعاملهم مع كتب الموروث الفقهي.. "الاستدلال" مصطلح يتردد كثيرًا عل ألسنة أهل المنطق، ويعرّفونه بإيجازاتهم المنطقية متبعين في ذلك أساليبهم المعروفة، وقد يتيه كثير من الناس في دياجير تعقيداتهم، ومع ذلك انسحب هذا المصطلح ليتداوله علماء الفقه تداولاً يغني عن إيجاد تعريف له، فهو طلب للدليل وذكره سواء كان نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا أو غير ذلك، ولا يتأتى ذلك إلا بملكة يكتسبها المستدل هبةً من الله وتنويرًا له بمعرفة مقاصد التنزيل، وإدراك الموضع المقصود من الدليل، وتُنمّى تلك الملكة بالتلقي التدريجي لعلوم الشريعة سلوكًا في طريق الأولين ممن خدموا هذا الدين بإقامة القواعد والأصول لضبط تأمل الناظرين في الكتاب والسنة، فالقرآن أنزله الله هدىً ونورًا يستهدي ويهتدي به الناظر فيه دون حاجة – في كثير من الأحيان – إلى واسطة تعريفية لمدلولات ألفاظه، ومقاصد آياته، فهو كما قال الله تعالى: (قرآنًا عربيًا غير ذي عوج) ولا شك أن طرق وقواعد الاستدلال غير بعيدة المنال، ولكنها أيضًا لا تخضع لتفاوت الأفهام، فهي ثابتة بثبات الدليل، ولا تتشعب بتشعب الأهواء فهي واحدة في ابتداء النظر. وقد نبتت نابتة ذكر الله أشباههم في كتابه، يتقصدون من القرآن ما يوافق أهواءهم وينقادون لما يقيمون به على من خالفهم حججهم، وقد عُرف هذا المنهج بمنهج "الاستلال" وهذا منهج يأخذ من الكلمة بعض حروفها، ومن الآية بعض كلماتها، ومن السورة بعض آياتها، دون النظر إلى سابق ولاحق، ولا لسياق ولا لمعنى عام تتحدث عنه السورة أو الآية، فاستدلاله باستلال الكلمة أو الآية دون النظر لما تقدم وتأخر وعمّ وخصّ، قد يراد منه في كثير من الأحيان مراداً باطلاً، وضرب النصوص بعضها ببعض، وأحيانًا أخرى يراد منه الانتصار لرأي معيّن أو مذهب معيّن أو شيخٍ معيّن، فيختلط سوء القصد مع سوء الفهم لينتج لنا مذهبًا مخالفًا للقرآن، موافقًا بالفعل لمن أشار الله إليهم بقوله: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) مع أنهم يُدعونَ إلى أحكام بيّنة، وتشريعاتٍ نيّرة، لكن إراداتهم كانت تدعوهم إلى التحاكم إلى آراء الرجال، وإلى ترك الاستدلال بما يهدم ما بأيديهم من باطل، تحت دعاوى كثيرة ولعل أبرزها هو "أن القرآن لا يفهه كل أحد" وأنه "لابد من واسطة بيننا وبين كلام ربنا" وهو يعني بالواسطة شيخَه أو طائفتَه أو فهمَه أو مذهبَه! فلا تجده منقاداً إلا لتلك الواسطة حبّاً وتعظيمًا لها، وبغضًا وعنادا لمن خالفها، في الوقت الذي تراه يستل النصوص من سياقها ويضرب صفحًا عن سياقها، ويدعو عند ظفره بمطلوبه واستدلاله لمراده باتباع الكتاب والسنة وترك آراء الرجال، وهو لا يقصد بذلك إلا هذا الموضع من الدليل وهذا النوع من الاستدلال، وكأنه لم يمر يومًا تاليًا الزجر عن هذا الخلق الذميم، والمنهج اللئيم، الذي وضعه الله كعلامة لا تليق بمؤمن، وسمة لا ينهض بها إلا مَن ذُكر (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم،إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين). فكم ممن يظهر في صورة المنافح عن الكتاب والسنة وهو يهدم ما يدعو إليه حين يرتبط الأمر بتخطئة شيخه، أو انتقاد طائفته، أو تصويب منهجه وطريقته؟ وكم هم هؤلاء المستلون، الذين يلوون أعناق النصوص ليأخذوا منها ما يسقطونه كحكم رباني على من خالفهم من المسلمين، ليُلحقوا - ضمنيًا - تبعات ذلك الحكم الذي هو في سياقه وسباقه ولحاقه في كفار قريش وعتاولة المشركين، ليرمي به أخاه المسلم دون النظر إلى عواقب ذلك الاستلال والإسقاط؟ وكم هم الذين يبترون النص الرباني عن مراده، ويلحقون به معنى سطحيًا لا يبالون بموضع تنزيله ولا بنتيجة استلالهم عند تأويله، كما قال شاعرهم: ما قال ربّك ويلٌ للأولى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا فأكثر من نراهم يتقلبون بين منهجي البتر والاستلال، تجرفهم أهواؤهم إلى مستنقع تناقضاتهم، فتبدو منهم في النظائر المتشابهة أحكامٌ متباينة، حتى صار هذا المنهج مطّردًا في أطروحاتهم واستدلالاتهم حتى عند تعاملهم مع كتب الموروث الفقهي، فحين يكون المذهب الحنبلي موافقًا لرأيه وناصرًا لقوله، وقريباً من فهمه، تجده حنبليًا لا يتجاوز مذهبه قيد أنملة، في الوقت الذي يخالف فيه قواعد مذهبه وأصول إمامه في مسائل كثيرة، وينكر بشطط على من سلك كسلوكه في مسألة ما، حتى إن منهجهم الاستلالي هذا يظهر أيضًا عند تعاملهم مع كلام عالمٍ بعينه، فتجده يلهث مثلاً بذكر "فلان" من الأئمة ويمجده ويثني عليه ويضع أقواله كعناوين بارزة، وحين يستأنس خصمه بكلام العالم نفسه، يرفع عقيرته بمقولتهم المشهورة التي تنسب إلى الإمام مالك رحمه يظهرونها حينًا ويخفونها أحيانًا "كلّ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله"!! ووالله ما هذا الاستدلال الاستلالي عند نصرة المذهب أو الرأي إلا التأويل العملي التطبيقي لقول الله تعالى (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين).