الراحل تركي السرحاني    الوعي الإحصائي: بوصلة رؤية 2030 في عصر البيانات والذكاء الاصطناعي    الخليج يستقبل الجدد    دواء من الشوكولاتة يواجه فيروسات الإنفلونزا    الفلسطيني عدي الدباغ: الزمالك اسم كبير وهدفي إسعاد جماهيره    اعتماد قواعد غرفة التحكيم المختصة بمنازعات الرقابة المالية برابطة الدوري السعودي للمحترفين    أمريكا تفرض على بعض المسافرين دفع مبلغ كضمان وتأمين    أمير الشرقية يستقبل منسوبي لجنة السلامة المرورية ومدير عام التعليم بالمنطقة    نائب أمير القصيم يتسلّم التقرير السنوي لإدارة المجاهدين    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة هروب    جمعية تجهيز لرعاية شؤون الموتى تطلق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجانًا    أمير تبوك يستقبل رئيس هيئة الرقابة ومكافحة الفساد    القبض على مواطن لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي بتبوك    وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تخطط لنموذج تمكيني مستدام    الأمن العام : الصلاة في صحن المطاف تعيق حركة المعتمرين    روسيا: ضغوط ترمب على الهند لعدم شراء نفطنا غير قانونية    الشؤون الإسلامية تختتم البرنامج التدريبي المتخصص للمراقبين ومنسوبي المساجد في جازان    مصير أوتافيو بيد جيسوس في النصر    أرامكو: التدفقات النقدية الحرة تهبط 20% إلى 57.1 مليار ريال    الاتفاق يواصل تحضيراته وديمبيلي يقترب من العودة    إنفاذ يشرف على 77 مزادا لبيع 667 أصلا    مستشفى د. سليمان فقيه بجدة يحصد اعتماد 14 مركز تميّز طبي من SRC    دورة "مهارات العمل التطوعي" تُثري الحضور في مركز التنمية الاجتماعية بحائل    ارتفاع مؤشرات الأسواق الآسيوية بعد ارتفاع "وول ستريت"    تقنيات الذكاء الاصطناعي ترصد الزلازل بالمملكة    هجوم أوكراني بطائرات مسيرة يشعل حرائق في روستوف    أغسطس.. شهر المناعة العالمي لحماية الأجيال    ريم الجوفي تقدم ورشة التمييز بين المعلومة والمعرفة في عالم رقمي    أمير القصيم يزور محافظة المذنب ويؤكد تطورها التنموي وتنوع الفرص الاستثمارية    إطلاق نظام الملف الطبي الإلكتروني الموحد "أركس إير"    12 نائبا ديمقراطيا يطالبون ترمب بالاعتراف بفلسطين    3 سيناريوهات إسرائيلية أخطرها الاجتياح الشامل لقطاع غزة    الدعم السريع منح مخيم لاجئين إلى مرتزقة    أم تخفي طفلتها بحقيبة سفر تحت حافلة    تغيير التخصص الجامعي وآثاره السلبية والإيجابية    حفلات زفاف بفرنسا تستقبل الضيوف بمقابل    ضمن كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025.. Team Falcons يمنح السعودية أول ألقابها    بعد الانكسار    خطوة يومية!    «إثراء» يختتم البرنامج الصيفي ب 5 أفلام قصيرة    المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور 2025 ينطلق غدًا في الرياض    ابن نافل أتعب من بعده.. وإساءات نجيب    يقام في سبتمبر المقبل.. النصر والأهلي يواجهان القادسية والعلا في كأس السوبر للسيدات    البريد يصدر طابعًا تذكاريًا لأمير مكة تقديرًا لإسهاماته في تعزيز التنمية الثقافية والاجتماعية    الدقيسي    موجز    أصدقاء البيئة تستثمر طاقات الطلاب بمبادرة بيئية لحماية غابات المانغروف    تحذيرات من عواقب خطيرة حال تفعيل آلية الزناد.. توتر متصاعد بين إيران والترويكا الأوروبية    بعد تصاعد التوترات بين قسد وقوات حكومية.. واشنطن تدعو للحوار في منبج والسويداء    سفير سريلانكا: المملكة تؤدي دورًا عظيمًا في تعزيز قيم التسامح وخدمة الإسلام عالميًا    51.9 مليار ريال زيادة سنوية بإيرادات قطاع التشييد والعقارات    الدرعية تحتفي ب"ترحال".. قصة وطن تُروى على المسرح    الحراثة التقليدية    إصدار معماري يوثق تطور المسجد النبوي عبر العصور    روائح غريبة تنذر بورم دماغي    أمير تبوك يبارك حصول مجمع مباسم الطبي على شهادة "سباهي"    911 يستقبل 93 ألف مكالمة في يوم واحد    وكيل إمارة جازان يرأس اجتماع الاستعدادات للاحتفال باليوم الوطني ال 95    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والتنوير (1)
المقال
نشر في الرياض يوم 06 - 01 - 2005

يتم طرح التنوير في العالم العربي والإسلامي، كخيار من عدة خيارات، تتقدم بها تنويعات الاجتماعي؛ بغية الخروج من واقع التخلف الذي يحاصرها، إلى واقع آخر مغاير، واقع واعد، يداعب أحلامها بأطياف المعاصرة التي تنتشلها من براثن الجهل والمرض والفقر والإلغاء. إنه حلم الأجيال المتتابعة، منذ فجر اللقاء بالآخر الغربي الذي يعيش هذا الحلم الأممي، وليس مجرد خيار بين اليمين واليسار. إنه بوابة الحياة، ولا أحد يختار الموت على الحياة، وإنما هو اضطرار في لحظة انتحار.
والذي يتأمل طريقة المجتمعات النامية مع الإشكال الحضاري الذي يواجهها، يجد أنها واعية تمام الوعي أن الخيار التنوير المتماهي مع الآخر الغربي هو الخيار الذي يستطيع تحقيق الكثير والكثير، لشعوب بائسة، لا تمتلك من آليات المعاصرة ومعطياتها إلا القليل. وقد لا تعبر عن هذا الوعي بصورة مباشرة وصريحة، وإنما يكفي أن يكون حراكها يشي بهذا الخيار. فمثلاً طرحها لمشروعها الخاص - كبديل للمشروع التنويري التغريبي - هو اعتراف بضرورة المعاصرة وحتميتها، بمعنى أنها تعي أن التقدم هو الخيار الأوحد، ولكنها ترفض الاتكاء على نموذج الآخر، بل قد يكون الرفض التام لقيم المعاصرة نوعا من الاعتراف بهذه الحتمية الحضارية، فالرفض والانكفاء على الذات هو اعتراف بالموقف السلبي تجاه تحديات المعاصرة.
وإذا كانت بدايات التنوير العربي - أو على نحو أدق محاولات التنوير العربي - قد اضطلع بها (الأزهري) رفاعة الطهطاوي، كرائد للتنوير، فإن مرحلة ما بعد الإمام محمد عبده كانت مرحلة التنوير اللاديني - وليس بالضرورة المتصادم مع الديني - تلك المرحلة التي أعطت فيما بعد تصورا عن ثنائية ضدية بين ما هو ديني وما هو تنويري. وللأسف، استمرت هذه الثنائية في الحضور، وترسخت وتعمقت بعد صعود تيارات الأصولية التي تجنح إلى التطرف فيما تأخذ وتدع، والتي تضحي بقيم التنوير، وأهمها: العقل، في سبيل فهم غير مقاصدي لنصوص الشريعة السمحة، بحيث غدت ذهنية التحريم هي المقابل الديني لما هو تنويري وعصراني.
إذن، الموقف العدائي من التنوير لم يكن موقف الإسلام كدين، وإنما موقف شريحة من المسلمين، شريحة هي الأرفع صوتا، والأكثر تكلما بلسان الدين بين أوساط الجماهيري المنفعل بها. وبما أن التنوير الذي لا يحفل بتبرئة نفسه من التغريبي وما تقاطع معه هو التنوير الرائج كمادة إعلامية في العالم العربي، بحيث يناولها الإسلاموي كموضوع للاشتغال عليها، بغية تحقيق أهداف تتأرجح بين الشخصي والسياسي والديني، فإن التنوير سيبقى موضع اتهام من الجماهيري، بوصفه المشروع المنافس والمناهض للمشروع الديني الذي تحمل راياته جماعات الإسلام السياسي، مما يؤدي إلى أن يتسرب إلى الوعي الجماهيري أن التنوير ليس انفتاحا لآفاق الإسلامي، وإنما بديل له. وبهذا يصبح العداء للتنوير أمرا طبيعيا، كنتيجة خاطئة لمقدمات خاطئة في تصور ما هو التنوير.
لكن، إذا كانت هذه هي معالم الواقع، فإنه واقع يعكس خوفا وتوجسا من التنوير، له مبرراته في الوجدان الجماهيري، لكنه في الحقيقة خوف مما لا خوف منه؛ لأن التنوير المعزول عن وجدان الأمة، المنفصل عنها، في دينها وتاريخها وهويتها، ليس قادرا على الفعل فيها، ولا على أن يصنع لها مستقبلا من الوعي مغايرا لما هي عليه، أي انه بهذا الحال عاجز عن ممارسة إيجابيته فيما يراه، وعاجز عن ممارسة سلبيته فيما يراه الجماهيري سلبيا.
وبهذا، فإن نقل التراث التنويري الغربي - كما هو عليه في العالم الغربي - إلى مجتمعات تشكلت منذ قرون على تراث آخر، وتشبعت به، ولديها وعيها الخاص الذي تعاين به الوجود، لم يعد واردا في الحراك الثقافي الإسلامي المعاصر، إلا لدى قلة تفتقد لأدنى مقومات التأثير في الوعي العام. ولا شك أن انعدام الأثر في مثل هذا الفعل يعني بالضرورة انعدام الخطر عند من يتوجس خطرا من المد التنويري ذي الأبعاد التغريبية الصريحة.
وأمر آخر، يمكن أن يمنح الطمأنينة لمن يخشى من الانفعال بالتنوير الغربي، وهو أن الفعل التنويري الراهن يستلهم مقومات الحضارة الغربية، ويخوض تجربتها الرائدة في فترة تقف فيها تلك الحضارة أمام نفسها، تتأمل ذاتها، وتفحص مسيرتها، وتمارس نقدا جذريا لتصوراتها ومنطلقاتها الفلسفية التي قامت عليها منذ بدايات التنوير. وهذا يقي - إلى حد كبير - من لحظات الانبهار التي يخشاها البعض على الفاعل التنويري، وإن كان لا يقلل بحال من درجة المثاقفة، ولا من الإيمان بحتمية هذه المثاقفة.
ونحن إذ نطرح التنوير - كخيار مستقبلي للأمة - فإننا لا نطرحه في صورته التراثية التي لا تتجاوز به الزمن الحداثي بحال، وإنما نطرحه باعتباره الأساس الثقافي الذي ينتظم الحراك الحضاري للغرب منذ أربعة قرون. بمعنى أننا إذ نستحضر بدايات الانبعاث الغربي، وأطروحة الحداثة الغربية، منذ بدايات عصور الأنوار، فإننا لا نتجاهل اللحظة الراهنة (الما بعد حداثية) التي يقف الغرب على حدودها، ويعتبرها بعض منظريه، لحظة مغايرة، تقطع مع ما سبق من أزمنة الحداثة، وتنقلب على قيم التنوير.
وفي ظني أن المرحلة الغربية الراهنة التي يمر بها الغرب ثقافيا، والتي تتراءى كنقيض للمرحلة التنويرية، ليست إلا جزءا من الحركة التنويرية الغربية، حتى وإن كانت - كما تبدو الآن - انقلابا على قيمها، وتشكيكا في مقولاتها، واستهزاء بشعاراتها. إنها - أي المرحلة الما بعد حداثية، - ثورة تنويرية داخل السياق التنويري الغربي الذي لم ينقطع منذ أن بدأ، والذي لم ينفك عن المراجعة، تحت صور شتى، ليس الارتياب بالحضارة الغربية - كمنجز - وهجائها، من قبل بعض رموزها، بأقل تلك الصور شأنا، ولا بأدناها أثرا.
وبما أن الحداثي والما بعد حداثي داخل في السياق العام للفعل الحضاري الغربي الذي نسعى للتماهي معه، كمشروع يمتد لقرون، فإننا في هذا الظرف الحضاري الخاص، يجب أن نتمثل هذا السياق في نقطة البداية، مرورا بالمراجعات، إلى نقطة النهاية التي يقف الغرب لديها الآن. أي أن نشرع في التنوير والحداثة، باستحضار البداية التاريخية للتنوير، دون أن نغفل عن المرحلة الما بعد حداثية التي نتزامن معا، ودون أن نتغاضى عن موقفها من المشروع التنويري.
هنا، نجد أنفسنا في موقف خاص (ليس من الخصوصية) ليس هو بالزمن الغربي في مرحلة ما قبل التنوير، فقد كان الغرب آنذاك يخوض تجربته الإصلاحية دون نموذج قائم يتمثله، وليس بالتنوير ومخاضه العسر، فضلا عن أن نعيش الزمن الما بعد حداثي. كما أننا - من ناحية أخرى - مسلمون، نمتلك رؤى خاصة، ويمثل لنا الإسلام مشروع حياة. طبعا في صورته الأساس المعيارية، لا في التجارب التاريخية التي أنجزت بالفعل.
هذا يعني أننا لابد أن نعي أننا لسنا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر؛ كي نأخذ التنوير كمنجز جاهز، كما أننا لم نمر - من حيث الوعي الحضاري - بالقرن العشرين - فضلا عن تجاوزه - حتى نتنكر للمنجز التنويري وآفاق الحداثة، في سبيل الما بعد، إذ لازلنا في مرحلة الما قبل.
وإزاء هذا وذاك، لا يخفى أن بعض مفردات التنوير تصطدم ببعض مفردات الإسلامي، ويعدها البعض - بتصور خاص - نقيضا للتصور الإسلامي في كليته. وفي ظني أن (جوهر) العملية التنويرية لا يصطدم بالإسلام، بل الإسلام في تموضعه الأول كان فعلا تنويريا رائدا؛ لولا أن التجربة الأموية أجهضت المشروع وهو لا يزال في طور التشكل.
ويدرك من يتأمل الحالة الإسلامية والعربية أن التلقي الساذج والسلبي للمنجز التنويري الغربي، والذي لا يأخذ في اعتباره إنتاج مقولاته الخاصة التي يفرضها واقعه من جهة، وتفرضها المثاقفة مع الآخر من جهة أخرى، يقضي بفشل التجربة، خاصة عندما تلامس شروط الواقعي، بما فيه من معطيات الإسلامي التي أثبتت شواهد الواقع أن لها النصر في النهاية، في حال تضادها - في الوعي الجماهيري - مع أية قيمة.
كل هذا يؤكد أن الفاعل التنويري في العالم الإسلامي، كما لا يمكنه تجاهل طرفي المرحلة التنويرية الغربية وتنويعاتها، لا يمكنه تجاهل المكون الإسلامي للأمة، والفاعل الأهم، والأكثر جذرية في وعيها، وإن أمكنه تجاهل التجربة التاريخية للإسلام؛ بوصفها ممارسة بشرية يمكن اطراحها. وفي حال تجاهل الإسلام أو التراثي التنويري ومتتالياته، تصبح العملية محض استهلاك، إما للتاريخ وإما للآخر. وهذا يعني بوضوح، غياب الفعل الحضاري لغياب التنوير الحقيقي، التنوير المنتج لزمن خاص ومكان خاص، يشبه هذا أو ذاك، لكنه ليس هو على وجه التحديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.