إصدار التقرير الشهري عن أداء المطارات الداخلية والدولية لشهر أبريل 2024    المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة يلتقي المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا    للمرة الأولى منذ 3 أسابيع.. دخول شاحنات مساعدات إلى غزة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية غويانا التعاونية بذكرى استقلال بلاده    رحيمي يرد على انتقاله إلى دوري روشن السعودي    دالوت يهدي لقب كأس الاتحاد الإنجليزي للجماهير    القبض على 3 وافدين بتأشيرة زيارة لترويجهم حملات حج وهمية    4 ذو الحجة.. إغلاق التسجيل في خدمة النقل المدرسي للعام الدراسي القادم 1446    أمير تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة الثامنة عشرة لطلاب وطالبات جامعة تبوك.. الأربعاء    لقاء أمير منطقة حائل مع أكبر خريجة في جامعة حائل يجد تفاعلاً واسعاً    جمعية البر بالشرقية تتأهب للتميز الأوربي    "الداخلية" تقيم المعرض المتنقل "لا حج بلا تصريح" بالرياض    أمانة القصيم تركب لوحات قاعة الأمير بدر بن عبدالمحسن    الصندوق العقاري يودع 978 مليونًا لمُستفيدي سكني في مايو    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب قبالة أرخبيل فانواتو    إسرائيل.. استعمارية حاقدة    رئيس وزراء السنغال يلتقي وفد مجلس الشورى في العاصمة دكار    رياح نشطة على أجزاء من الشرقية والرياض    إصدار كتاب حول الأحداث البارزة لمنتدى التعاون الصيني- العربي على مدى ال20 عاما    «عيادات دله» تسعى لتقديم خدمات طبية بجودة عالية لأفراد الأسرة وطب الأسرة: رعاية وقائية وعلاجية بالقرب منك    ماكرون واللجنة الوزارية يبحثان التحرك لإيقاف الحرب على غزة    السعودية تختتم مشاركتها في المنتدى العالمي للمياه بحصد جائزة أفضل جناح    أمير تبوك يرعى حفل تكريم خريجي مدارس الملك عبد العزيز    مغادرة أولى رحلات «طريق مكة» من المغرب    السعودية تفوز باستضافة منتدى الأونكتاد العالمي لسلاسل التوريد لعام 2026    الأهلي المصري يتوج بدوري أبطال إفريقيا    هارفارد تشهد تخرج 60 طالباً سعودياً    الحرارة في 4 أسابيع ترتفع إلى 48 مئوية في المناطق    فلسطين والعالم.. لحظة اختبار تأريخية    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج دورة الضباط الجامعيين    توثيق النجاح    عفوا.. «ميكروفون الحارس يزعجنا» !    «مجرم» يتقمص شخصية عامل نظافة ل20 عاماً    الماء (3)    هاتفياً.. ولي العهد يعزي رئيس إيران المؤقت في وفاة الرئيس الإيراني ووزير خارجيته ومرافقيهم    أكد حرص القيادة على راحة الحجاج.. أمير الشمالية يتفقّد الخدمات في« جديدة عرعر»    عزى هاتفياً رئيس السلطة بالإنابة في إيران.. ولي العهد وماكرون يبحثان تطوير التعاون ومستجدات غزة    صراع الهبوط يشعل الجولة الأخيرة    رمز الضيافة العربية    عرض فيلم " نورة " في مهرجان كان    قطبا الكرة السعودية وكأس الملك    حلقة نقاش عن استعدادات "رئاسة الهيئة" لموسم الحج    يطلق عروسه بسبب لون عينيها    "جامعة الحدود الشمالية" في خدمة الحجيج    «مبادرة طريق مكة».. تأصيل مفهوم خدمة ضيوف الرحمن    واتساب يختبر ميزة لإنشاء صور «بAI»    مبدأ لا حياد عنه    مختصون ينصحون بتجنّب القهوة والشاي قبله ب 3 ساعات.. «النوم الصحي» يعزز الطاقة والتوازن في الحج    تحمي من الأمراض المختلفة.. استشاري: لهذه الأسباب تكمن أهمية «تطعيمات الحج»    الدفاع المدني: تمديد التراخيص متاح عبر «أبشر أعمال»    باريس سان جيرمان يهزم ليون ويتوج بكأس فرنسا في ليلة وداع مبابي    «سكوبس» العالمية تصنف مجلة «الهندسة» بجامعة الملك خالد ضمن قواعدها العلمية    ولي العهد يعزي محمد مخبر هاتفياً في وفاة رئيسي وعبداللهيان ومرافقيهما    الجدعان يشارك في "اجتماع وزراء المالية" لمجموعة السبع    حماية السلاحف    عملية قلب مفتوح تنقذ حياة حاج بنغلاديشي    حضور سعودي في اختتام "كان السينمائي"    أمير تبوك يرعى حفل تكريم مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعاً فاطمة المرنيسي
نشر في الرياض يوم 05 - 12 - 2015

شرعتُ في قراءة كتب "فاطمة المرنيسي" حينما ظهرت الترجمات الأولى لها في سورية ولبنان خلال ثمانينيات القرن العشرين، وبقيت على صلة بأفكارها، ومعلوم بأنها عكفت على نقد بنية المجتمعات التقليدية، ومنها العربية والإسلامية، ونقد الخطاب الداعم لمقوّماتها، فتوزّع عملها بين بحث استقصائيّ مُحكم عُني بإعادة رسم صورة المرأة في التاريخ، وتمثيل ثقافي لدورها في مجتمع تقليدي، واشتبك كلّ من البحث والتمثيل معًا بهدف تعويم صورة المرأة في ثنايا التاريخ والواقع. وحينما توفيت في يوم الاثنين الموافق 30-11-2015 في ألمانيا، عن خمس وسبعين سنة، كانت قد أنجزت وعدها في تحليل حال المرأة في مجتمع يتحرّج من اعتبارها فردا سويا فيه، ويحول دون حقوقها، ويكبح تطلعاتها الخاصة والعامة.
ففي كتابها "الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطيّة" طوّرت المرنيسي حفرًا أخّاذًا في الجانب المغيّب الثقافة العربيّة، وبذلك فتحت كوّة على عالم المرأة الذي جرى تناسيه وطُمر في طيّات من الاحتيال والتهميش، فمن أجل تغيير بنية المجتمع التقليديّ ينبغي أوّلاً تغيير شروط العلاقة بين المرأة والرجل، فالحداثة في جوهرها تغيير في نمط العلاقات، والانتقال بها من التبعيّة إلى الشراكة، وكلّ محاولة تغفل ذلك مصيرها الفشل.
برهنت المرنيسي بأن ثمّة خوفا عامّا من الحداثة، لأنّها تقوّض النمط التقليديّ من العلاقات الراسخة بين الأفراد، وتقترح نمطًا مختلفًا، ولكي تفتح سبل التغيير، ويقع الانتقال من مجتمع تقليديّ إلى مجتمع حديث، فمن اللازم أن يفسح الدين مكانًا للديمقراطيًة، وبالمقابل فالديمقراطيًة ستحول دون شيوع التفسيرات المتعصّبة للظاهرة الدينيّة، أي أنّها ستوقف جموح اللاهوت المتطرّف الذي جرّد الدين من حقيقته التاريخيّة، فنزعُ اللاهوت عن الظاهرة الدينيّة يعيدها إلى نبعها الأصليّ، باعتبارها تأمّلات تقويّة ذات أهداف أخلاقيّة واعتباريّة غايتها التهذيب والإصلاح؛ فاللاهوت- وهو جملة من الممارسات السجاليّة المجرّدة التي تغذّت على الحواشي المعتمة للظاهرة الدينيّة - احتكره الرجال، وصاغوه طبقًا لرؤاهم ومصالحهم، وفيه درجة عالية من التضامن ضدّ النساء، وهو تضامن اتّخذ شرعيّته من تكييف خاصّ لإيحاءات الظاهرة الدينيّة ونصوصها.
ولئن كان اللاهوت من نتائج ثقافات القرون الوسطى القائمة على الجدالات المنطقيّة، والادعاء باحتكار الحقائق، فإنّ العصر الحديث الذي تبنّى مبدأ النسبيّة، لم يبقَ بحاجة إلى فروض اللاهوت المجرّدة عن التاريخ. وجدت الحداثة الدنيويّة نفسها في تعارض مع لاهوت ذي بطانة دينيّة، وتحريرُ العلاقات الاجتماعيّة من أنساقها الموروثة، سيجعل المجتمعات تقبل علاقات مغايرة، تحتلّ فيها المرأة مكانة فاعلة لا صلة لها بنوعها الجنسيّ، إنّما بدورها الاجتماعيّ.
ثمّ إنّ المرنيسي، حلّلت في كتابها "الحريم السياسيّ" حالة الرسول قبل هيمنة التصوّر الإقطاعيّ للإسلام الذي عزل بين الجنسين، أي حالته فردًا تواصل مع أسرته ومحيطه الاجتماعيّ بمنأى عن الضخّ الأيدلوجيّ الذي ولّده الإسلام المتأخّر، حيث لم يكن ثمّة انفصال بين الفرد وعالمه. ثمّ انعطفت إلى وصف دور النساء في حياته بعيدًا عن التجريد اللاهوتيّ الذي استقام وتصلّب فيما بعد، وكشفت طبيعة التواصل بين النبيّ والنساء، وبخاصة زوجاته، ودرجة الترابط فيما بينهما، ثمّ سلّطت الضوء على السخاء العاطفيّ الذي اتّصف به صلى الله عليه وسلم تجاه نسائه، وتتطلّع الرسالة الضمنيّة في ذلك إلى تثبيت الفكرة الآتية: إذا كان الرسول قد تميّز بتقدير شخصيّ وعاطفيّ للمرأة، فما هي الوجوه الشرعيّة للاهوت اختزل المرأة إلى كائن تابع سوى التفسيرات الضيّفة للظاهرة الدينيّة؟ إلى ذلك فقد سلطت ضوءًا كاشفًا على نساء الرسول، ومنهنّ خديجة وعائشة رضي الله عنهما، وهما امرأتان لعبتا دورًا بالغ الأهميّة في حياة نبيّ الإسلام، وفي تاريخ الإسلام بصورة عامّة، وذلك يبرهن على أنّ دور المرأة لم يكن ثانويًّا، إنّما جرى بالتدريج تقليص ذلك الدور.
على أنّ المرنيسي ارتحلت في شعاب الماضي باحثة عن دور المرأة في التاريخ العربيّ والإسلاميّ في كتابها "سلطانات منسيّات"، ثمّ قدّمت قراءة لصور الحريم في الثقافات عمومًا، كما ظهر ذلك في كتابها "هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟". ولم تكتف بذلك وسواه إنما كتبت سيرتها الروائية الشائقة "نساء على أجنحة الحلم". وفي كلّ ذلك انفتحت على آفاق واسعة فيما يخصّ قضيّة المرأة في المجتمع التقليديّ، فكانت تلحّ على الاندماج الطبيعيّ بين المرأة والرجل في عالم يقوم بتحديث نفسه، لكنّه منشطر بين غرب يسعى لتحويل التحديث إلى عمل مستحيل، من خلال تمزيق الأنساق التقليديّة للعلاقات الاجتماعيّة التي لا بدَّ لكلّ تحديث أن يقوم بتفكيكها، ومجتمع ذكوريّ يتعمّد إقصاء نصفه كعورة فاضحة ومبتورة ومطمورة، ولكنّه نصفٌ مثير للشبق والرغبة، وهو قطاع النساء. وعلى هذا فكلّ من الغرب والذكوريّة العربية يتبادلان المصالح ويقهران المرأة، وسلسلة الانهيارات المعاصرة في سلّم القيم يراد بها الحيلولة دون تقبّل المرأة كآخر.
عنيت المرنيسي بحال المرأة في المجتمعات التقليديّة المحكومة بنسق قيميّ لا يقبل الحراك، ويعزف عن التغيير، وهي مجتمعات راحت تفسّر كلّ تحديث على أنّه تهديد لهُويّتها، فتعيش تحت طائلة التأثيم، فكلّ عمل ينبغي أن يتطابق مع تقليد راسخ أو نصّ دينيّ، فالبحث عن المطابقة أهمّ من التحوّلات. هذه المجتمعات التي تتخيّل مخاوفها، هي مجتمعات الحيرة والثبات، وفيها تتحوّل المرأة إلى حرباء متقلّبة، تُحجب وتُكشف، تُستبعد وتُستحضر في آن واحد.
تبدو صورة المرأة معقّدة في المجتمعات التقليديّة، كما صورتها المرنيسي، فمرّة يريدها الرجل رمادًا، ومرّة جمرًا، يخفي كينونتها الإنسانيّة وراء حجب الإهمال والاستبعاد، لكنّه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة، والعلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل. ففي الوقت الذي مارس فيه الرجل هذه الازدواجيّة، استجابت المرأة للضغوط المتقاطعة التي فرضتها تقاليد شبه مغلقة، صار هاجس بعثها مجدّدًا أحد أكثر التحدّيات الثقافيّة حضورًا في عصرنا، ومن الطبيعيّ أن تتلاعب هذه الأمواج والتيّارات بالبنية الذهنيًة للمرأة، وتجعلها ترى ذاتها منعكسة في مرايا متعددة.
لم يكتفِ الفكر النسويّ، ممثلا بأبرز نماذجه العربية: عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، بمراجعة الثقافة الأبويّة وتحليل بنيتها، وطرح مفهوم الرؤية الأنثويّة، إنّما انخرط في التحليل الاجتماعيّ والسياسيّ والتاريخيّ، فقدّم تمثيلاً ثقافيًّا متنوّعًا لكثير من ظواهر الحياة، وكان أن استأثر تفكيك المجتمع التقليديّ باهتمام ذلك الفكر الجديد، فهو الحاضنة التي غذّت الثقافة الأبويّة بكثير من فرضيّاتها ومسلّماتها، وفي أطره ترتّبت معظم ضروب الإقصاء والاختزال التي تعرّضت لها المرأة عبر التاريخ، ولعلّ المرنيسي خير من حللت هذه الملابسات، ونقدت هذه التحيزات.
د. عبدالله إبراهيم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.