أفصحت وزارة المالية بإعلانها الميزانية الفعلية للعام المنصرم 2011م عن استمرار الإشكالية في مصادر الدخل القائم منذ عدة عقود ، و هو أن 93% من إيرادات العام الماضي هي إيرادات بترولية ، أي أن حديث الوزراء المعنيين (المالية ، التخطيط ، التجارة ، الصناعة و غيرهم) عن تنويع مصادر الدخل لم يُترجم إلى مشاريع أو برامج ، و لم نتقدم في هذا المجال اللهم جزئياً في مجال البتروكيماويات و هو ما مكنا من تحقيق قيم مضافة معتبرة عما يحققه لنا بيع البترول كمادة خام ، و لكنها في النهاية إيرادات بترولية. إن البترول مادة ناضبة ، و في حال نضوبه ونحن على ما نحن و لم ننجح في تنويع مصادر دخلنا ، و لم نستثمر وارداته في بناء أصول منتجة و تأسيس بنىً تحتية داعمة لصناعات و خدمات تشكل موارد متجددة –غير ناضبة- فإننا سنكون في منعطف كبير إذ ستنقطع وارداته و تتوقف جميع الصناعات القائمة عليه كمادة خام ، و تتراجع -إن لم تتوقف- جميع الخدمات التي تقدمها الدولة فهي تمول بنسبة 93% من إيرادات البترول. من جهة أخرى فإن هناك سعيا حثيثا لتطوير واستخدام مصادر بديلة للطاقة و هو ما سيخفض الطلب على البترول ، و ستنخفض أسعاره إلى حدود ستكون لها آثارها السلبية للاقتصاد و المجتمع ، و قد عشنا طرفاً من هذه الآثار في الثمانينات الميلادية على إثر انهيار أسعار البترول من 40 إلى 8 دولارات ، و تخلفت مسيرة التنمية عندنا و تراجع مستوى أداء عدد من القطاعات ، و لعل أشهرها قطاع المقاولات الذي لا يزال يعاني من ضعف شديد في أدائه و الدليل ما نشهده من تأخر و تعثر آلاف المشاريع بما فيها التي ينفذها كبار المقاولين. لقد ظللنا نسمع عن وجوب و أهمية تنويع مصادر الدخل منذ أن كنا على مقاعد الدراسة و لا زلنا نسمع فقط دون أن نلمس تقدماً في هذا المجال برغم وجود الفرص المضمونة و هنا أعني مجال الخدمات ، فبالإضافة إلى مواسم الحج والعمرة وهذه أضمن و أفضل الفرص التي لم نستثمرها كما يجب ، هناك الخدمات المتعلقة بمرور التجارة ، فموقع المملكة على خطوط التجارة بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب يُعد فرصة لم تُستثمر حتى الآن ، و الغريب في الأمر أننا نعلم أن مكةالمكرمة كانت و منذ ما قبل الإسلام مركز تجارة عالميا بحكم موقعها ، فقد كانت خطوط التجارة تلتقي عندها ، وحتى عندما تنشب الحروب بين الفرس و الروم كانت مكة هي المعبر الآمن للتجارة بين الشرق و الغرب عبر جنوب الجزيرة العربية. فمتى نحقق تنويع مصادر الدخل؟ الإشكالية الثانية هي تباين التوزيع إذ لا زال الفرق الكبير بين ميزانيتي جامعتي الملك عبد العزيز و الملك سعود غير مبرر ، برغم ما تفضل به معالي مدير جامعة الملك سعود من إيضاحات تعقيباً على مقالي بعد ميزانية العام الماضي ، إذاً من غير المعقول أن تكون ميزانية جامعة الملك سعود و عدد طلابها و أعضاء هيئة تدريسها أقل من نظرائهم في الملك عبد العزيز و تحصل على ميزانية تفوق ضعف الأخيرة . أما الإشكالية الثالثة فهي الانحراف الواضح في تقديرات ميزانية 2011م مقارنة بالنتائج الفعلية ، فقد أفصحت وزارة المالية عن توقعاتها بأن إيرادات عام 2011م الفعلية سوف تتجاوز تريليون و مائة مليار ريال ، بفائض تجاوز التقديرية بأكثر من ثلاثمائة مليار ، و أن مصروفات نفس العام الفعلية تجاوزت المقدر بأكثر من مائتين و عشرين مليارا ، و هذا في رأيي انحراف واضح في تقديرات الميزانية ، و لا ينبغي النظر إليه بأنه أمر إيجابي ، فالميزانيات هي أدوات تخطيطية و رقابية و كلما انحرف الفعلي عن التقديري كلما كنا أبعد عن أهداف التخطيط و أضعف في المراقبة. فصحيح أن هناك مبدأ مشهورا في علم المحاسبة اسمه الحيطة و الحذر ، يقتضي التحفظ في الأرقام التقديرية بالحد الأدنى لجانب الإيرادات ، و الحد الأقصى في جانب المصروفات ، و هذا التحفظ يجب أن لا ينحرف عنه الفعلي بأكثر من 10 أو 15% ، و إلاّ أصبح التقدير غير دقيق ، و لا يحقق أهدافه في التخطيط للمستقبل. هذا و الله أعلم و هو المستعان.