أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    إنسانية دولة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    حضور قوي للصناعات السعودية في الأسواق العالمية    السعودية تستضيف الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي    معرض برنامج آمن.. الوقاية من التصيُّد الإلكتروني    ممكنات الاستثمار السعودي السياحي تدعم المستثمرين السعوديين والأجانب    معادلة سعودية    رئيس الطيران المدني: إستراتيجيتنا تُركز على تمكين المنافسة والكفاءة    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    المطبخ العالمي    القوات الجوية تشارك في "علَم الصحراء"    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    مكافحة إدمان الطلاب للجوال بحصص إضافية    وزارة البيئة والمياه والزراعة وجولات غير مسبوقة    أضغاث أحلام    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    جائزة غازي القصيبي (2-2)    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    المجمع الفقهي والقضايا المعاصرة    دورة حياة جديدة    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل كرات الترافل بنكهة الليمون    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    5 عوامل خطورة لمتلازمة القولون العصبي    تحذير من مرض قاتل تنقله الفئران !    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    مركز التواصل الحكومي.. ضرورة تحققت    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    أمانة المدينة تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مدينة تشليح    العدالة الرقمية    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    الشورى يدعو «منشآت» لدراسة تمكين موظفي الجهات الحكومية من ريادة الأعمال    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    سورية.. الميدان الحقيقي للصراع الإيراني الإسرائيلي    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير الرياض يستقبل عددًا من أصحاب السمو والفضيلة وأهالي المنطقة    العين الإماراتي إلى نهائي دوري أبطال آسيا والهلال يودّع المسابقة    «مكافحة المخدرات» تقبض على ثلاثة مروجين    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلتقي منسوبي فرع الرئاسة العامة بمنطقة جازان    مطالب بتمكين موظفي الحكومة من مزاولة "الأعمال"    السديس يُثمِّن جهود القيادة الرشيدة لتعزيز رسالة الإسلام الوسطية وتكريس قيم التسامح    الإعلام والنمطية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعواد الثقاب!!
نشر في المدينة يوم 06 - 07 - 2011

بلغت السعادة عند زنوبة ذروتها وهي في ربيع عمرها حتى شعرت وكأنها بلغت الجبال طولا..
لم تستطع إخماد تزاحم الأفكار المتنافرة في وجدانها وفكرها نحو بلوغ مدى من النجاح والتفوق يتجاوزان حد القوقعة الأسرية والاجتماعية وإلى نحو الخروج من عباءة الحياة التقليدية الرتيبة.. فهي الفتاة المنغلقة على ذاتها البسيطة في احتياجاتها واهتماماتها وطموحاتها كان ذلك ساكنًا ماكنًا في فكرها، راضية به غير معترضة ولا محتجة ولا نافرة إلى اللحظة التي ولج إلى مسامعها نبأ بهيج بقبولها في بعثة دراسية في العاصمة الأوروبية لندن، فغيّر حياتها، وقلب أمر أولوياتها واهتماماتها.
زنوبة إلى لحظات سابقة لم تكن تتحرك في محيط دائرة يسمح لها بمجرد التفكير لأبعد من حدود بيئتها المحلية المسيجة بعادات وتقاليد وأعراف وأنماط اجتماعية يصفها الآخرون بكونها متقوقعة وصارمة التحفظ، فهي من أسرة تفرض النقاب الكامل على جميع الفتيات في عصر يطلق عليه بأنه قرية اتصالية صغيرة من شدة تطوره وتقدمه في شتى الميادين الإنسانية، هو تطور تنشده تلك القرية دون شك وتخطب وده في كل درب لكن دون أن يماهي حياتها الداخلية وأحكامها العائلية الخاصة.
هذه القناعات راسخة بقيم أصيلة لا تقبل المهادنة ولا المساومة ولا حداثة التفكير كما هو سمت المجتمع المحافظ على عراقته وأصالته فكل ما يمكن مقبول للنقاش فيما عدا ما يمس تلك الثوابت قيد أنملة فضلًا عن المفاهيم المتحررة فهي محكومة بالرفض سلفًا..
فالمرأة هي خط الدفاع الأول عن طهارته ونقائه مهما دبت رياح التغيير في سمائه واتجهت عقارب الانفتاح نحو الاقتراب من أسوار تلك الأسر.. ولك أن تتصور أي فتاة يكون مصير الحكم عليها لو أزاحت جزءًا بسيطًا ونذرًا يسيرًا من نقابها الكامل من إلقاء عبارات القدح والذم والانتقاد وتوبيخ أسرتها الصغيرة على نقطة البداية لخروجها من حصن الرداء المتناهي السترة.. إلى درجة أن كثيرًا من فتيات العائلة المحافظة يرتدين قفازات منسحبة على الأيدي وعباءة ساترة يبالغن اتساع قياساتها بحيث لا يتبين منها خصر كان رفيعًا أو بدينًا، ولا تميز به السمينة الممتلئة من الرفيعة نحيلة الجسد، لأن الرداء أوسع من حدود قدرة الناظر على تمييز أخواته عن بعضهم البعض لاستبيان أية ملامح لوجه أو لون بشرة أو أي سمات محكمة التواري خلف ستار العباءة السوداء.
وكثير منهن يرتدين ذلك باقتناع وسعادة ودون رفض واستنكار لأن القناعة متأصلة في المحافظة على النفس بدرء ملامحها ومفاتنها عن أعين العامة غير المحارم الشرعيين وهن في حقيقة الأمر لسن خارج المنافسة مع النساء الأقل تحررًا بالتباهي بالتقليعات العصرية الحديثة والمجاراة بمستحدثاتها بما يتوافق مع سلامة المحافظة بمبدأ الالتزام، فهذا هو شرعهم وثوابتهم التي لا تتغير كحصون منيعة لا يمكن اجتثاثها من أعماقهم مهما كانت المغريات مثيرة للنفس.
زنوبة سليلة هذا النمط من الفكر التقليدي لم تخف فرحتها العارمة وسعادتها البالغة التي أسكبت من عينيها دموعًا ثمينة بعد اعتلاء اسمها قائمة المبتعثين للدراسة في لندن المدينة التي تجبر من تسقط أقدامه ثرى أرضها على الرضا بمبدأ التعامل بمعطيات ثقافتها المنفتحة والمسبلة الحريات وهي مدينة تحكي تاريخ التطور الحديث وتقدمه التكنولوجي.. وكانت هي الفتاة الجديرة استحقاقًا بمنحة البعثة العلمية بعد تخرجها بتقدير امتياز في الثانوية العامة ومسيرة تفوق دراسي مشهود ومتتالٍ في أوساطها العائلية فأتت إليها فرصة إكمال الدراسة الجامعية وبعدها للمراحل العليا لتنطلق إلى فضاء تفوق لا يتوقف عنده مدى لو استمرت بنفس الوتيرة والطموح وهو متوقع لمن في مثل حكمها وظروفها..
وقد سعد الجميع بذلك واستبشروا لها خيرًا وباركوا لها الخطوة واستشعروا حقيقة النقلة التي ستغير مسار حياتها نحو التفوق المنشود.. كانت لا حدود لأفق خيالاتها فستنال تذكرة خروج من أوسع الأبواب من عزلة المجتمع المتقيد فهي حتى يومها الأخير لا تتمكن للخروج إلى الشارع إلا في أضيق الحدود وفي ما هو معذور من الضرورات وبعد تقديم موجة من التبريرات والضمانات لو أرادت زيادة صديقة في منزلها أو تلبية دعوة احتفالية خاصة من إحدى زميلات دراستها.. فوالدتها ستحيل مطلبها إلى أبيها من باب تحمل المسؤوليات وتوزيع الأدوار كي تدفع عن نفسها أي حالة لوم فيما لو أصابها مكروه أو تعرضت لأذى أو شاب سلوكها شائب قد يفتح علامات استفهام لا تنتهي بمجرد طي صفحة عابرة.. فالخشية دائما ما تحاط بالصديقات منبت السوء لسرعة انتقال حالة العدوى بالأفكار المنحرفة والغريبة والشاذة بالذات لو كانت تلك الصديقة غير موثوق في طبيعة علاقتها ومصدر معرفتها.
البنات كالزجاج أو عود الثقاب في حكم تلك الأسر المحافظة وكما هو إيحاء المجتمع في تشبيهاته وطرح الأمثلة وضرب الشواهد.. فهن كالزجاج يسهل كسره وكأعواد الثقاب لا يحتمل حالة الاشتعال فينتهي مفعوله إلى الأبد.. ففي حالة الزجاج لا يمكن عودته كما كان سليمًا بعد التقاط أجزائه المهشمة وفي أعواد الثقاب لا ينفع ولا يفيد ولا يعود لسابق عهده بعد انطفاء شعلته فتذهب ريحه سريعًا.
هكذا هي النظرة لها؛ بل إن الأمر لا يتوقف عند حد كسر وتلف الزجاجة أو انطفاء الشعلة بل يتعدى الأمر ذلك لأن الفتاة المحترقة بفضيحة أو بإثم مشكلة سلوكية وأخلاقية ستوسم بهذا الوصف وتخرج أسرتها الصغيرة من دائرة العفة والحياء، وهي خسارة لا تعادلها ألم وقيمة لأن رأس المال قد ذاب وذبل كون السمعة هي أهم الأولويات التي يجب سلامة حالها وهي مرتبط بتك الفتاة فإذا فقدت نقاءها أعرضت الأسر في محيطها عن طلب خطبتها وتنعدم فرصة الاقتران بها.
وحتى تلك الفتاة التي تتعرض لفكر جديد يخالف نمط حياتها التقليدية تثار حولها شكوك وعلامات استفهام قد تودعها في ذات الخانة فتحاك عليها الألسن وتطلق عليها الشائعات والتسميات وتكون في حكم الشاردة عن سرب قريناتها ومن في مثل وضعها.. فهي حالة مستمرة في مجريات حياتهم كما هو الماء والهواء لأن عود الثقاب يجب أن يظل محتفظًا بجودته والزجاج يجب أن يظل سليمًا من الخدش.
كلّما تذكرت زنوبة أنها كعود الثقاب في تشبيه المجتمع أو كالزجاج سهل تهشيمه بضربة واحدة تنهي مصير طموحها ومسيرة تفوقها شعرت بحالة تصادم الأفكار في عقليتها الصغيرة وتفكيرها الذي لم يعد يستوعب مثل هذه النقلة التي ستغير حياتها من عزلة شديدة إلى انفتاح مفرط في الحياة اللندنية التي تسمع عنها ما هو أقرب لخيالات يصعب تصورها، فهي اليوم بحالها هذا لا تشاهد إلا عددًا محدودًا من الرجال المحارم وهم معدودون على الأصابع ولا تجالس إلا عددًا محدودًا أيضًا من النساء والفتيات، حتى كاد المجتمع يصفهن بعاجنات الكلام من فرط الثرثرة كنتيجة لحالة التقوقع وسذاجة الاهتمامات.. فلا متعة متوافرة إلا بثرثرة القصص والحكايات ونقل أثر المواقف بإسهاب لا يترك شاردة ولا ورادة دون تفصيلها وتمحيصها في نمط مكرر ومحفوظ لا بديل عنه ولا تغيير فيه.. ولا تحيد عن ذلك إلا بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية وبمتابعة لصيقة أو بقراءة القصص والروايات التي تميل إلى اقتنائها من فترة لأخرى.
كيف لها أن تتأقلم مع هذا الانفتاح الذي ستعيشه في لندن والذي سوف يجتاح كل شؤون حياتها فهناك لا وصاية ولا رقابة ولا اعتماد على غير الذات وكل من ذهب لذات البيئات وتعايش مع طبيعة ظروفها واندمج في أبجديات الحياة فيها سرعان ما يعود بفكر مختلف وعقلية لا تخلو من الغرابة لفتيات المجتمع التقليدي ويظهر جليًا من منطق حديثها عن حقوقها واحتياجاتها، أن شيئًا ما قد اختلف في مستوى تقييمها ورضاها عن ما يجري في شؤون حياتها وتلك جرأة ممقوتة لا تتفق مع عقلية الفتاة الراضية بالحياة التقليدية والراضخة بقناعة لانسياب الأمور في حياتها.
الآن تدرس زنوبة في جامعة أوروبية عريقة إلى جانب الشباب كتفًا إلى كتف فلا حسيب ولا مراقب وهي من تتولى إدارة شؤون حياتها تذهب بمفردها لشراء احتياجاتها وقضاء أمورها وحتى والدها الذي يرافقها لا يكاد يفرغ لنفسه مع سرعة وتيرة الحياة هناك لسؤالها عن دراستها وتفاصيل برنامجها اليومي فانشغالها بالدراسة لا يترك لها جفنًا يغمض حتى ساعات متأخرة من الليل.. ومن غير المقبول وهي في خضم هذا الانفتاح والاعتماد على الذات أن يسألها والدها من جالست داخل أسوار الجامعة من الأشخاص ومن رافقت من الصديقات ومع من تعاونت في تكاليف أبحاث ومهمات المواد العلمية.
الحياة لا تترك لعقلية والدها أو ذويها فرصة لطرح الأسئلة رغم أنه مكبل داخليًا بقيود مجتمعه المحافظ ويخشى على ابنته من الأفكار الملوثة وإغراءات الحياة والمثيرة فمجرد القبول بالحياة هناك لا يدع لكل ذلك سبيلًا للخروج فهي مخاوف وهواجس مبطنة تعصف أحيانًا بفكره.. فلا نقاب هناك ولا حجاب كامل ولا عباءة سوداء ساترة ترضي قناعات المجتمع المحافظ ولا مراقبة لصيقة تؤتي ثمارا مع كل ذلك.
الفتاة البسيطة لم تعد كسابق عهدها منساقة إلى من يتولى أمر توجيها إلى حيث تذهب وتعود، ولا تحتاج هناك إلى رفع مذكرة تفاهم وتقديم مبررات للحصول على موافقة إذا أرادت الخروج لزيارة صديقة فلا حاجة إلى ذلك هناك البتة، فهي تلتقي داخل أروقة وأقسام الجامعة بعشرات الزملاء يوميًّا دون حرج ولا ريبة بأي صورة تذكر.
لكن الأفكار الضبابية والشكوك السوداء والخوف المقلق على مسار ابنته ومسلك أخلاقها وانضباط سلوكها لم يتركه وشأنه ولا يتركه يهنأ بنوم متصل دون أن يقض ذلك مضجعه، فيتقلب يمنة ويسرة على جمر تلك الشكوك والمخاوف المزعجة.. فقرر الذهاب ذات يوم إلى جامعتها في لندن ليشبع تلك الرغبة الملحة ويطفئ نيران تلك الشكوك التي تقلب فكره كيفما تشاء بينما يضمر كل ذلك لأن الحياة في عاصمة الضباب لها طابع من الانفتاح يفرض الانسلاخ من قيود الماضي وتلجم قسوة أحكامه ولو مؤقتا إلى نفاد الفترة المحددة للدراسة وهي أسئلة جاثمة على نفسه كحمل بعير.
ذهب مراقبًا لها في تلك الجامعة عن بعد ودون أن تستشعر قربه منها ومن نظراته المرتجفة التي تطاردها، فلو عاد به الزمان إلى الخلف وتوقفت عقارب الساعة عن الدوران حينها لما سمح لهذه الرحلة أن تتم دون أن تكون في عصمة رجل يحط حمله على راحلته.. ولو كان هناك من يتقدم لخطبتها لما تأخر للحظة عن عقد قرانها بسرعة المكوك ودون فرض أي شروط ووضع أي طلبات ولا مغالاة بأي متطلبات مهما بلغت أهميتها ومهما كان فرق السن والطبقة والظروف المادية غير اشتراط مرافقتها للبعثة الدراسية فيعودان إلى بيئتهما الطبيعية محفوفين بدفء عش الزوجية الحصين.
(2)
ذهب الأب إلى مقر الجامعة لمراقبة ابنته وهو مشحون بتكهنات أفكار تموج بصفاء بصيرته، فهو لا يلبث أن يمكث في العاصمة البريطانية أسابيع إلا وتضطره الظروف للعودة إلى بلدته لرعاية أسرته هناك والاطمئنان على سلامة أوضاعهم وتلبية احتياجاتهم، بالإضافة إلى ظروف عملية تستوجب حضوره إلى هنا لمتابعتها بشكل سريع وخاطف ودون الخوض في تفاصيل جزئية متعمقة فالأمر لديه لا يحتمل التأخير والإطالة، فأسرته وبقية مصالحة هنا بينما قلبه ووجدانه في لندن هناك حيث المغتربة وما يردف التفكير بها وعنها من شكوك ومخاوف لا تهدئ في كل الظروف والأحوال.
يختلف حالها في لندن عما كان عليه في حياتها القروية البسيطة.. فهذه التي تسرح وتمرح كما تشاء لم تكن في السابق تتجرأ على الخروج ولو للحظات دون متابعة لصيقة ومتأنية ما يسكن حالة من الاطمئنان بانضباط مسارها وانضوائها تحت مظلة الرقابة الحثيثة فلا تثريب عليها ولا إثم.. هي ذاتها قد عانت مر المعاناة وهي تطلب جهاز جوال في المرحلة الثانوي فقابل طلبها وعود تأجيل ومماطلة حتى كان لها ما أرادت بعد أن حصل جميع أقرانها عليه فأصبح متاحًا لها بعد زوال المخاوف، فتأخير حصولها عليه لم يكن بقصد غلاء ثمنه وارتفاع تكاليف فاتورته وإنما بغية إبعادها عن أي طرف يمنح عبور الخروج عن حالة الانضواء التام لأجوائها المألوفة ومن باب الاعتقاد بأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وإن كانت المفسدة مجرد هاجس يتحرك داخل دائرة مغلقة.
وجد نفسه في عالم آخر داخل أروقة الجامعة ومبانيها تشعره بدوار كمن يبحث في متاهة ليس لها نهاية غير الدوار المتزايد أو كمن يبحث عن إبرة في كوم من القش الكثيف، أراد أن يراقب ابنته ويلاحظها عن قرب ويطمئن على سلامة حالها واتجاهها صوب أهدافها الحقيقية دون التفاف لأي تيار أو علاقة مشبوهة تخرجها وهدفها الأصيل فلعله يتدخل إذا وجد خللًا فيصوبه ويمعن في البلاء فيوقف حدوثه قبل وقوعه، فهو في الخارج تموج به الهواجس حيث منابت السوء تنال الرعاية ومنح الحقوق مع الانفتاح المفرط دون تنقية ولا فلترة لما يوائم طبيعة البشر وأحكام أديانهم التي تنبذ اقتراف المحرمات وتبغض ممارسة المحظورات..
فالكحول يشاهدها تباع في واجهة المحلات والمراكز التجارية تنتظر عشاقها وطالبيها بلا عائق ولا موانع خلقية واجتماعية ودينية، والعاهرات تطبع لهن بطاقة نظامية لممارسة البغاء على العلن كأية سلعة تروج بنظام غير مخل ودون النظر إلى أي جوانب أخرى، وهؤلاء هم الشواذ لهم حقوقهم الشرعية ومجتمعهم المسبل لا ينصح ولا يرشد ولا يعالج من منطلق إباحة ممارسة الحقوق والدفاع عنها، هي السياسة العليا للبلاد رضي من رضي وأبى من أبى.. والذي أضحكه كثيرًا أن من يقف في طريقهم ويكافح خطر انتشارهم يتعرض للعقاب بحكم القانون وتحت مظلة التشريعات الموضوعة.. فعلا كما يردد شر البلية ما يضحك.
كان باديًا عليه -وهو متيقن ومدرك لذلك تمامًا- بأنه لا يتمتع بأي حق تجاه ابنته غير مرافقتها وتبصيرها برفق وبأريحية وهدوء دون فرض ولا تكلف وإلحاح فلو مارس عليها ضغطًا وتعنيفًا وتسلّطًا قد يعرض نفسه للمساءلة والعقاب بحكم القانون المدني فلها ما تريد من اختيار أصدقائها من الجنسين كما تختار وجباتها المفضلة.
كلما تذكر ذلك قال: يا لطيف الطف والله يستر علينا، واحفظ يا حفيظ من هذا الشر..
هل تقع في المحظور: يا ستار استر علينا..
هل تقع فيمن يؤثر على تفكيرها فيعكر صفوه ويزيل استواءه واستقامته.. في مجتمع جعل للإنسان حقوقا كما للحيوان والنبات وكل ما هو على الأرض..
كان يصعب عليه موائمة الأمور بين ما هو صائب وخاطئ وبين ما هو مذموم ومرغوب فكل هذا التطور المذهل والتقدم العلمي المتنامي يخلو من أصالة حقيقة.. إنما ينساق المجتمع خلف حريات زائفة حللت المحرمات وأوجدت لها التشريعات وسنت من أجلها القوانين والضوابط.. ومن يشاهد المجتمع الغربي ويقترب منه يكاد لا يصدق حالة الانضباط في احترامهم للحقوق وأدائهم للواجبات وهذا لم يكن وليد لحظة عابرة ولا بمحض صدفة طائشة فكيف كل هذا التطور والانضباط والاحترام يشوبه تقديم الرذيلة على العلن واستباحة الأنظمة لحريات بلا حدود.. ردد حينها: ليت الحلو يكمل..
شاهد بعينه في الجامعة كيف الفتيات والصبيان يسرحون من كل بحر ولون وبأزياء لا تواري ما خلفها من مفاتن ولا تخفي غير النذر القليل من بقايا الجسد فلا يرفع بصره حتى يلقيها مغشية على الأرض.. مرددًا يا ستار استر علينا..
وقعت عيناه على ابنته بعد طول عناء وبحث وتنقيب كمن يبحث عن إبرة في كوم من القش.. لكنه رآها على ما كانت عليه من ستره واحتشام ووجدها لا تلتفت إلى تلك الحريات المنفلتة بل صورة حقيقية لنتاج بيئة محافظة انطلقت في تلك الأجواء بثوابت راسخة لا تتغير بزيف الركض خلف ممارسة ما هو مخالف لشرعها وثقافتها الاجتماعية.. فخجل من شكوكه وهواجسه وفر من المكان قبل أن تقرأ في ملامحه نظرات ريبة وشك.. فهي كما هي لا ترفع ناظريها إلا في حدود ضيقة ولا تماشي غير مثيلاتها في السلوك والالتزام والانضباط فشكر ربه وعاد أدراجه سريعًا..
وجد نفسه مندفعًا للحديث معها بشوق عن حياتها الدراسية بعد أن زالت ملابسات نفسه وهدأت عواصف أفكاره ووثق في سلامة خطاها واستقامة سلوكها.. كان الحديث يفتح لزينب فرصة أمتع في الحوار الذي لا خجل فيه ولا انضواء لأفكار الآخرين غير ما تقتنع به وتؤمن، واكتسبت سعة في الحوار ما يجعلها تنطلق وتسهب في تفاصيل أعمق من الحدود المتاحة لإنتاج مجتمعها التقليدي، لكنه لم يخف حساسيته كلما أطالت معه حديث المطالب لحقوق المرأة المهضومة وعدم مراعاة المجتمع لإنتاجها ودورها ومشاركتها الفاعلة.
كانت الصدمة من نوع آخر في نفسه، أدرك أن تغييرًا من نوع مختلف حدث في تفكير ابنته فلم تعد تلك التي تستلم لحالة فرض رأي دون اقتناع بمحتوى ما هو مطروح على طاولتها من موضوع نقاش ودون فهم لأدق التفاصيل فقد اكتسبت أريحية ومرونة في النقاش مع تطور في الوعي وجرأة الرأي ما يجعل الطرف الآخر حذر من مغبة الوقوع في تهمة تسلط الرأي ومبدأ فرض وتقديس وجهات النظر.. هو حق مشروع في نظرها لا يمكن التراجع عنه.
يردد الأب بين الفينة والأخرى يا ستار استر ويا حفيظ احفظ.. كنا نخاف من السفور والفجور فجاءت بلسان فصيح لا يسكت ولا ينضب ولا يتراجع عن الانطلاق كلما حانت الفرصة.. يا ستار استر.. يا لطيف الطف..
عندما تتحدث تبتعد كل البعد عن اهتمامه المنطلق من خلفية لها وقعها وطابعها الخاص الذي يصعب المساس به والعبث فيه.. صورة المرأة عنده لا تعطيه فرصة زحزحة إطارها على عكس النظرة للشاب فلا زجاج ينكسر ولا عود ثقاب يشتعل وهو من يبحث عن بنت الحلال بالمواصفات المطلوبة.. لم يعد الخوف عنده من وقوع ابنته في محظور السلوك والانسياق خلف شبهة الاتجاه والمسلك فاستقامة السلوك متجذرة في أعماقها لا تقبل العبث والتغيير.. إنما الانقلاب حدث في طريقة عرضها وأسلوب نقاشها لكل ما هو مستحق لكل جنس بحيث لا يمانعه شرع ولا يعارضه منطق التطور ومواكبة إيقاع العصر.
كلما ألمح الأب بشيء في نفسه وجد في منطقها ما يثير حساسيته في تصحيح المفهوم القديم الذي يستوجب تصحيحه فلغة الانفتاح وثقافته لا تقبلان تجاوز طي الحقوق المشروعة باعتبارها مسلمات لا جدال فيها ولا تنازل عنها.
لم يسلم من حديثه مع زنوبة حالات انسحاب صامتة لتمرير الوضع المؤقت لها في لندن لحين عودتها سالمة إلى موطنها بشهادة العليا فتعود إلى حيث كانت ويكون ما كان من موجة أفكار ومساجلات إلى طي النسيان وتتأقلم مرة أخرى مع ظروف حياتها المحافظة والمنسجمة مع نظامها العائلي فباعث ارتياحه سلامة خلقها وثبات واستقامة سلوكياتها.
لكنها تمادت كثيرًا حينما ألقت إلى مسامعه مطلبًا أعادته إلى حيث كان صعبًا عليه استقباله والتعايش معه وقد أعادته إلى حيث كان قبل مجيئه مصاحبا لها، تمنى حينها لو عاد به الزمن للوراء ولم يخض التجربة اللندنية مع ابنته مهما كانت المغريات والمكاسب فقد طرأ لغة احمرار العينين في حديثه المتشنج ما يعطي الانطباع بحرب قادمة في القناعات ووجهات النظر لا تقبلان غير سقوط أحد الطرفين.
التطمت زنوبة بحائط صد شاهق اضطرت هي وقتها أن تطأطئ رأسها نحو رغبته وصرامة رأيه فلم يسمح لها بالاسترسال في الحوار بأي شكل من الأشكال ومهما كانت صور الإقناع وأهمية المبررات وحجم الضغوط التي تعانيها فقد قسى عليها في ردوده وتسلط رأيه بشيء من التعنيف كان من الممكن أن ينتهي مشاورها التعليمي إلى التوقف كليًا ومعه قد تحزم حقائبها للعودة إلى مسقط رأسها بخفي حنين.
كانت قد طرحت عليه فكرة استهوتها هناك بأن تمتلك سيارة خاصة تذهب بها إلى جامعتها يوميًّا وتقضي بها جميع مشاوريها المتباعدة فتخفف عبء المصروف المادي المكلف للمواصلات في شوارع لندن ويخف عنها عناء الانتظار والتأخير واستخدام المواصلات العامة التي تسبب لها حرجًا وإزعاجًا كما تقدم من تبريرات.
وألمحت له بإشارة سريعة وخاطفة مررتها على مسامعه سريعًا بأن ذلك سيكون فرصة لها بتعلم القيادة وتكون جاهزة في قادم الأيام لقيادة سيارتها الخاصة في وطنها لأن قيادة المرأة هناك كما تثق سيكون حتميًّا لن يعطله مانع غير مسألة وقت لن يمتد طويلًا مع تغير القناعات وزوال القيود الاجتماعية الضاغطة لحاجز التطور وتقف سدًّا لنهوض المجتمع وانطلاقه.
انتابته حالة من الذهول كصدمة مدوية منعته من التفكير للحظات وهي تثرثر أمامه بكل ما تستطيع من سبل لإقناعه والحصول على موافقته فهي تنقل ما يدور من وجهات نظر لا تحرم مطلبها وتدعم ذلك بتأييد بمبررات شرعية، لكنه استرد تركيزه سريعًا واستعاد توازنه النفسي ليضع حدًّا قاطعًا لطلبها ويقطع دابر الإطالة بصرامة لا تخلو من انفعال سلبي مبالغ، وإن استمرت في إلحاحها فربما اتخذ قرار العودة دون مزيد من التفكير فيقضي على كل طموح سعت من أجله فتوقفت مرعوبة من شدة انفعاله وأحست أن مستوى الضغط قد يرتفع عنده إلى ما لا يحمد عقباه فانسحبت وأذعنت لرفضه.
كان من الشاق عليه أن يحاورها عن السيئات والمزايا في مناقشة موضوع كهذا لم يدر في خلده أن يلتطم به يومًا من الأيام مع حدود تفكيره، وصرح لها بعبارة مباشرة أنه ينتظر الأيام والساعات لعودتها إلى موطنها سالمة وأجوائها الأسرية التي تنعم بحمايتها واحتضانها وألا حديث سيكون بعد ذلك في غير شؤون تعليمها وتوفر المقدور من سبل التعجيل بإنهاء متطلبات حصولها على الشهادة الجامعية دون إطالة فالحياة في لندن محدودة ومعدودة الأيام قلت أو كثرت.
كان من المنطقي أن زنوبة لم ترتكب جرمًا يستحق تكميم حقها في الاقتناع ولم تقترف إثمًا تستحق حدة ذلك القمع الانفعالي.. بل هناك في الخارج يعد مثل هذا الطرح طبيعيًّا لأخريات في ظروف أخرى، كانت مشدوهة بحالة القمع التي سيقذف بها تحت طائلة المغضوب عليها أسريًّا فخضعت واعتبرت طلبها نسيًا منسيًا، فقد شابها صمت طويل إلى آخر يوم لها في بعثتها، وعاشت ما تبقى لها من أيام هناك دون أن يكون هناك مجال لإصلاح ما أفسده ذلك الحوار الأخير مع أبيها الذي أعلن صراحة حالة الاهتزاز لثقته في أمور كثيرة ترتبط بوجودها هناك.
هو بعقليته المقيدة وبمجال تفكيره المحدود لن يحتمل أن تسكب عليه مبررات حتى لو كان مصدرها موافقًا لشرعه لأن ضغوط الماضي عنده ملجمة لأية حالة خروج عن فلكه فيدور مرغمًا في مجاله، وليس بمقدوره أن يجاري خط تماسه الملتهب.. هي تدرك أنها كبش الفداء الذي يقدم رضوى لمحيط والدها فيسيره كيفما يشاء ولو تقبل المحيط تلك الفكرة أو غيرها من الأفكار الأكثر احتدامًا لكان والدها أول المباركين والمبادرين والمهنئين كما هو حال بعثتها الخارجية التي كانت في الماضي لا يقبلها منطق ولا عقلية منغلقة.
هو ذاته -بطبيعة قسوة أحكامه- ليس جديدًا عليه أن يسلّط جلّ تركيزه على الحريات المنفلتة في حياة الغرب وعلى السيئات والمخالفات وإباحته للمنكرات واستحلال المحرمات التي يرفضها وينكرها حتى الغربيون المحافظون لمنافاتها الطبيعة الإنسانية.. حتى غدت أسطوانة مكررة يعيد ويزيد في لحنها المحفوظ ويختمها بكلماته المعهودة: ليت الحلو يكمل.. ليت الحلو يكمل!!
وهي ذاتها ورغم حالة الاضطراب الذي عاشته هناك قبل أن تعيشه هنا، ظلت تردد ذات المقولة.. هي فخورة بنموذج والدها المحافظ كونها وليدة ذلك المنتج، لكن ليس إلى هذه الحالة من الانسياق السلبي وانغلاقه لكل جديد يرتبط بها ولا يخالف شرعها ولا موروثها الاجتماعي ودون خضوع ذاك الجديد إلى مجهر عقلاني ومنطقي يفند الطيب من الخبيث ويغربل الصالح من الطالح ويفرز الغث من السمين، فإذا أقرّ من يقف خلفهم بالموافقة هلّل وبارك وقدم التبريرات، وإذا ولّوا وجوههم بالرفض والاستنكار أدبر معهم إلى حيث يريدون.. فظلت تردد وهي في ذروة ذبول حركتها هناك: ليت الحلو يكمل..!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.