سبق لي أن كتبت حول (الإدارة قبل وأثناء وبعد فاجعة جدة)، بتاريخ 20/12/1430ه، وقلت بأن للإدارة دوراً مركزياً فيما شهدته مدينة جدة، قبل وأثناء وبعد فاجعة الأربعاء 8/12/1430ه، فعندما لا تحتفي ثقافتنا الإدارية بإسناد الأمور إلى أهل الجدارة والاختصاص، فلابد أن نصل إلى ما وصلنا إليه. وقلت وأكرر بأن هناك كوارث وفواجع في مواقع أخرى حدثت وستحدث –إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه-، ولكن وقعها ليس له جلجلة ما حدث يوم الأربعاء المفجع.. فالإدارة هي المسئولة عن التخطيط والتنظيم والتنفيذ والمراقبة ومكافحة الفساد. والإدارة هي التي تسند مهام كل وظيفة من وظائفها لذوي الاختصاص فيها. والإدارة هي التي تفكر، وتخطط، وتدير استراتيجياً، وتؤمن بأهمية تكوين رؤية، وأهداف بعيدة الأمد. والإدارة هي التي تحرص على الانتاجية، وتحتفي بالأداء المتميز، وتضع له المعايير، وتقيسه باستمرار، وتكافيء المجتهد، وتحاسب المقصر.. الإدارة هي التي تضع الخطط و(السيناريوهات) لمواجهة أي طوارئ قد تحدث، ومعالجة آثارها بأسرع ما يمكن. وقلت أننا عندما نؤمن بأهمية دور الإدارة، ونمارسها بالشكل الصحيح سوف نحقق نتائج مذهلة على كافة المستويات، التنموية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، والثقافية.. وأما قصور الإدارة ما بعد الفاجعة، فقد تجلى في بقاء بعض آثارها حتى كتابة هذا المقال، أي بعد مضي أكثر من شهرين ونصف على وقوعها، فحتى الآن لم تكتمل علمية إزالة المخلفات والأتربة، وإعادة ترميم وإعمار البيوت التي تضررت وتهدمت، ولازالت بعض الأسر في مساكن الإيواء المؤقت. وأما حديثي عن الإدارة بعد إزالة آثار الفاجعة وانقشاع غبارها، فقد أجلته لأسابيع قادمة، وهئنذا أعود وأقول : أما الإدارة بعد هذه التجربة القاسية، فدورها المطلوب بالتوازي مع التحقيقات الجارية لتحديد أسباب وقوع الكارثة، -و هي كما صرّح سمو أمير المنطقة بأنها تراكمات لأخطاء سابقة- وذلك بهدف إزالتها، وتفادي وقوع كوارث أخرى في المستقبل، دور الإدارة المطلوب يتمثل في التغيير. وأعني بالتغيير هنا تغيير قيادات العمل في الوزارات والإدارات المعنية، خصوصاً من أمضى فترات طويلة في موقعه دون إنجاز يُذكر، ومن ثبت عدم جدارته في توليه، وهنا لابد من القول أنه آن الآوان لأن يكون المعيار في ايكال المهام والمناصب هو معيار (القوي الأمين)، وإن كنت أعرف أن تطبيق هذا المعيار من الصعوبة بمكان في أوضاعنا الحالية، لأسباب عديدة، ولكن علينا اعتماده، والبدء في البحث عن الكفاءات، وفي تأهيل القيادات، وإفساح المجال لها لقيادة ورشة التغيير الكبرى، التي بدأها خادم الحرمين بإعلانه الحرب على الفساد، ومحاسبة المقصرين، في أعقاب كارثة سيول جدة. إن كان لي أن أتطلع فإنني أتطلع إلى تغييرات واسعة، وهامة، وكبرى كتلك التي أحدثها خادم الحرمين الشريفين أيده الله، في مثل هذه الأيام من العام الماضي في مجال القضاء، والتي بدأنا نرى مقدمات آثارها الإيجابية، وهي تجربة تؤكد بأننا إن أردنا تحقيق تغييرات قوية وسريعة في أي مجال، فلابد من تغيير قياداته السابقة، بقيادات مؤمنة بضرورة التغيير، ومتحمسة لإحداثه، وليس في هذا أي تقليل من شأن القيادات السابقة، فهي قد أدت واجبها، وخدمت مجتمعها، ولها كل الشكر والتقدير والوفاء، ولكن هذه هي سنة الحياة، وهذا ما يقتضيه التغيير، والتجارب الإدارية تؤكد على أهمية ضخ الدماء الجديدة في المنظمات باستمرار، وتحذّر من أضرار الجمود. وأضيف هنا أن معايير (القوي الأمين) تتضمن معيار الشباب، والتجارب التاريخية والممارسات الإدارية المعاصرة تؤكد أهمية الاستفادة من طاقة وحماس الشباب ذوي القدرة والأمانة، وتحقيقهم لنتائج ونجاحات باهرة، وبالمناسبة لدينا أمثلة من هؤلاء في كلا القطاعين الحكومي والخاص. ومما يُذكر في مجال الإدارة، هو ضرورة الاهتمام بالعمل الجماعي، والبعد عن الفردية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمصالح عامة وكبرى، فعلى سبيل المثال لا يصح أن يقرر فرد ما أو مجموعة صغيرة من الأفراد مستقبل مدينة ما، ولابد أن يشارك أكبر عدد ممكن من أهل العلم والمعرفة والفكر في المدينة، في رسم مستقبلها. ومثال ذلك إقامة ورشة العمل الخاصة بتطوير منطقة شرق جدة، التي دُعي إليها العديد من ممثلي الجهات الحكومية والخاصة، ورعاها سمو أمير المنطقة، وحضرها سمو محافظ جدة، وتم التأكيد فيها على أهمية سماع جميع الآراء ودراستها للخروج بنتائج مهمة لصالح جدة. ولعل تعطيل دور المجالس البلدية خلال العقود الماضية، يُعد تعطيلاً للعمل الجماعي، وترسيخاً للفردية في قرارات الأمانات والبلديات، وبالتالي سبباً فيما آلت إليه أوضاع الكثير من مدننا، بما فيها مدينة جدة. ويأتي تفعيل دور المجالس البلدية، ومنحها صلاحياتها كاملة، في سياق الإصلاح الإداري وتحقيق مفاهيم العمل الجماعي، والشراكة في تشكيل ورسم مستقبل مدننا العزيزة. فاكس: 5422611-02 [email protected]